اقترنتِ العولمة بالغرب حين نشْأتها، في مطالع تسعينات القرن الماضي، وتمدُّدِ مفاعيلها في العالم. الاقتران هذا طبيعي بالنظر إلى أنّ العولمة تترجم لحظة من التّطور متقدّمة، في ميادين الإنتاج والعلم والتّكنولوجيا، لم يَكن قد بَلَغها – في ذلك الإبّان – سوى دول الغرب التي قطعت أشواطاً في تنمية النظام الرّأسمالي فيها، وفي الذهاب فيه إلى الحدود الإمبريالية؛ حيث تركُّز الإنتاج، وقيام الاحتكارات الكبرى، وهيمنة رأس المال المالي من السمات التي تميّزها عما سبقها من رأسماليّة صناعية (رأسماليّة منافسة)؛ لذلك أطلقنا على العولمة – في دراسةٍ لنا في عام 1993- وصفاً لها بما هي أعلى مراحل الإمبرياليّة.
يمكن القول، إذن، ومن غير مُشَاحةٍ أنّ العولمةَ بدأت في صورةِ فتحٍ علميّ وتكنولوجي غربي، وقدّمت نفسها إلى العالم في صورةِ بضاعةٍ غربيّة حصرية لا يُشارِككُ الغربَ أددٌ فيها. لكنّ الاستنتاج هذا – وهو عام وكُليّ – يدعونا إلى بعض التحديد والتمييز لئلا تضيعَ الحقائق العيانية في عمومه وإطلاقيّته، ومن أجل المُمايزة الضّروريّة بين سَهْم كلّ قوّةٍ غربية في تلك العولمة ومكانته في صناعتها.
ما من شكٍّ في أنّ الأمر، هنا، يتعلّق بتفاوُتٍ في الدّور والفعالية بين تلك الدول الكبرى التي يجْمعها تعبير الغرب؛ تفاوت لا يَقْبل التجاهل إنْ نحن أردنا أن نفهم كيف اشتغل نظام العولمة داخل الغرب نفسه، وكيف وزّعه إلى قوى ومناطق غير متكافئة. وهنا نُلفي أنفسنا أمام جملة من الحقائق الموضوعيّة والتّاريخيّة.
أوّلها، أنّ العولمة هي بالتعريف، منتوج أمريكيّ خالص أنتجَتْه سيرورة التقدم العلميّ والتّقانيّ في الولايات المتّحدة، وشُرِع في تطبيقاته الأولى – التّكنولوجيّة والمعلوماتيّة – في الميدان العسكريّ (وبالذّات، في برنامج «حرب النّجوم» أو «مبادرة الدّفاع الاستراتيجيّ») قبل أن تنتقل إلى الميادين المدنيّة: من اقتصاد وخِدْمات وإعلام وسواها. ومن هذا المهد الأمريكيّ انتقلت خبرةُ العولمة إلى بلدان الغرب الأخرى على التّوالي تبعاً لقدراتها ومَوَاطِن التّأهيل فيها.
وثانيها، أنّ اليابان في مطالع التّسعينات – وهي من معسكر الغرب – كانت أُولى القوى الغربية تفاعلاً مع الموجات الأولى للعولمة وانخراطاً فيها، لسببٍ معلوم هو أنّها الأقوى، علميّاً وصناعيّاً وتكنولوجيّاً، في منظومة الغرب بعد الولايات المتّحدة (وهي ما برِحت كذلك حتى بعد أن أصيبت بوهْن في الأعوام العشرين الأخيرة). أكثر من ذلك تحوّلت، سريعاً، إلى مركزٍ من مراكز العولمة وقوّةٍ فيها ينافس دورُها الدّور الأمريكيّ.
وثالثها، أنّ أوروبا انخرطت في العولمة، وظلّت لفترة مستهلكة لمعطياتها التكنولوجية والرّقمية قبل أن تبدأ في إنتاجها هي الأخرى. ولأنّ أوروبا منظومة دول متعددة، كان التّفاوت بينها بيّناً في التّفاعل مع معطيات العولمة وتحدّياتها، بتفاوت مواردها العلميّة. كانت ألمانيا الأسبق والألمع، ثمّ لحقتها كلٌّ من بريطانيا وفرنسا قبل أن تبدأ بقيّة دول القارّة في الاندماج في هذه السيرورة. مع ذلك، ظلّت بلدان أوروبا تابعة لمصادر المعلومات وللتّكنولوجيّات الأمريكيّة وللأطر العولميّة التي صاغتها أمريكا، أمّا ما استقلّت به أوروبا، فيما بعد، من أنظمة معلومات وإنتاج فلم يكن يخرج عن النّموذج الأمريكيّ، فبدا وكأنه يحاكيه.
من البيّن، إذن، أنّ عبارة الغرب الصّانع لظاهرة العولمة تخفي ما يعتمل داخله من تفاوتات صارخة في القدرات والإمكانيات. وهي تفاوتات ما كانت في حاجة إلى بزوغ العولمة كي تتبيّن وتنجلي، وإنّما لها تاريخ يمتدّ إلى ما قبل الحرب العالميّة الثّانيّة بقليل؛ حين بدأت الرّأسماليّة الأمريكية تُفصح عن تفوّقها الكاسح على سائر الرأسماليّات الغربيّة. وإذا كانتِ العولمة قد ساهمت في شيءٍ ما في هذا الباب، ففي أنّها ساعدت على تظهير ذلك التّفاوت إلى الحدّ الذي يبدو معه الغرب متعدّداً، أي متضمناً لعالمين فيه: شرقٌ غربيّ، هو أوروبا، وغربٌ له هو الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
ولقد بَدَتِ العولمة الغربيّة نفسها منطوية على ذينك العالمين: عالم المركز (الأمريكي) والأطراف الأوروبيّة. وبمقدار ما كانت أوروبا تابعة للولايات المتّحدة – تبعيّةَ أيّ هامشٍ لمركزه – كانت، في الوقت عينِه، تتلقّى نتائج هيمنة أمريكا عليها على صعيد مصالحها الإقليميّة التي لحِقها الكثير من الأضرار. ولم يحصل أن شهدتِ العلاقات الاقتصاديّة والتّجاريّة الأمريكيّة- الأوروبيّة مشكلات وأزمات، منذ قيام النّظام الدّوليّ في عام 1945، كما تشهد على ذلك منذ عشرين عاماً.
وهذا، في رأينا، منحى موضوعي للرّأسمالية في طورها العولمي؛ حيث ينتهي مبدأ المنافسة – على كثرة الحديث عنه في الخطاب الإيديولوجي – ويسود مبدأٌ دارويني اجتماعي هو مبدأ القوّة. لذلك ليس مستغرباً أنّ يكون الطّور العولميّ هذا هو عينُه طور رأسماليّة التّوحش.