الحياة رحله أشبه بالسياحة، لها بداية وخاتمة.. البداية فرح وابتهاج والخاتمة حزن وذكريات، هكذا الإنسان في هذه الحياة، وهي رحلة عابرة على كوكب في الكون لروح خالدة. صديقنا وأستاذنا الحبيب الدكتور يعقوب جناحي ختم رحلته في هذه الدنيا وارتحل بروحه، حيث تنتظره الأرواح، وودعنا ليبقى خالدًا في مملكة ذكرياتنا. في كل رحلة يرد الإنسان الحياة بمعدن وطينة خاصة به دون غيره وهي التي تشخص كيانه بين الناس، وأستاذنا أبا لطيفه كان معدنه الثقة الموزونة بالنفس، وطينته حب الناس وحب الخير للناس أجمعين، وهو بهذا المعدن الصافي والطينة الخصبة كانت روحه مسالمة تسعى إلى حل جميع أنواع القضايا والمسائل العالقة بِنَفَسٍ من السلم والوئام.
لي ذكريات معه تعود إلى أواسط خمسينيات القرن الماضي ونحن نلعب في روضة الرفاع حول منطقة الحنينية والعتيجة (العتيقة)، وملعب الغولف ومنطقة المَحْرَقَةْ جنوبي الروضة الساحة التي كانت تستظل سدرة الحنينية كانت ملعبنا، ومرتع اللعب كنا نوسع في مساحته أحيانًا لتمتد إلى جبل الدخان، وكانت المتعة فوق الجبل بعلو الجبل.. ذكريات الصبي عندما يكون الإنسان خامة لم تَشُبْهُ معاناة الحياة وآمالها وآلامها، عندما يكون صفحة واضحة شفافة تنصع بالبراءة، هي تلك المرحلة التي تكشف عن معدن الإنسان وطينته.. عرفته في عمر الصبا، وعرفته بعد أربعين عامًا من فراغ الزمن، الحسن في كبره كالحسن والبراءة في صباه، مثل المعدن النفيس لا يتآكله تعاقب العمر ولا تقلب الاحوال ولا تبدل الأفكار، ولم يكن مثل الذي تعبث به دغدغت الغرائز وأمواج الهوى..
أربعون عامًا وهو بعيد عن روضة أرضه وحنين بيته، كان حينها يعاني من قضيته الجوهرية، وهي حب الخير للناس وهي رسالته الأولى في حياته التي كانت كلها معاناة يتحدّاها بالصبر والأمل، ورغم معاناته الوجدانية في أعماق ذاته إلا أن الحب المغروس في أعماق روحه كان يرسم ابتسامة دائمة على وجهه.. يتبسم وهو في ذروة المعاناة في لحظات التفكر والتأمل كانت ابتسامته تهدأ بفعل جدية التعمق في الفكر، ويستشعر المرء من تفكره، وإحلال الجدية الهادئة مكان الابتسامة الرحبة، إن ألمًا وجدانيًا يعتصر نفسه وهو يعمل بحكمته على تغليب العقل ترويض النفس، وإعادة البسمة على وجهه حتى لا تتمادى الجدية على جمال الابتسامة، وكأنّ البسمة حق للناس عليه.. ثلاث خصال اتسم بها، من مرحلة الصبا إلى حين سلّم أمانة الروح إلى بارئها، وهي الثقة الموزونة بالنفس وحب الخير للآخرين وروحه المسالمة..
بعد أربعين عامًا من فراغ الزمن بيننا، التقيته بدعوة كريمة منه في بيته العامر بكمال التواضع، وكانت الدعوة تشمل عددًا من الأصدقاء والمعارف، والتقينا بعدها في مناسبات عديدة، فوجدت فيه الخامة الطيبة نفسها والمعدن الصافي العصي على الصدئ نفسه والطينة الخصبة بالحب نفسها، مضافًا إلى كل هذا الجمال من الخصال روح حكيمة حبكتها خبرة الحياة.. هذا الرسم الحياتي والوجداني، المميز وذو الطابع النادر، لإنسان يمتد من مرحلة الصبا مرورًا بالكبر إلى لحظة الوداع الأخير، يعكس صورة واضحة لشجرة باسقة وارفة الظلال وافرة الثمار في رياض الحكمة، وبغيابه ووداعه الأخير لأهله وأبناء وطنه فإن الوطن قد فقد رمزًا من رموز الحكمة..
رحم الله أبا لطيفة رحمة واسعة، وبقلوب ملؤها الحزن والأسى نتقدم إلى عائلة جناحي الكريمة، بأح التعازي والمواساة، داعين المولى عز وجل أن يتغمّد الفقيد بواسع رحمته ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.