ماذا حدث في المطبخ؟

1
28

لم يعرف عالمنا المسرحي العربي عروضاً مستوية على نار هادئة حتى النضج إلا قليلاً؛ والإشارة هنا للأسماء الكبيرة قبل الصغيرة، حيث يثبت الوقت أن التجارب هي التي تحفر في الذاكرة، حتى لو لم يتذكر الجمهور من القائمين عليها.

وحسب المشاهدات الشخصية، فإن معظم العروض المسرحية التي أتابعها حيّة وعبر وسيط، تكون في أطر مألوفة كلاسيكية/ تجريبية، أو غيرها، تبتكر لتجديد العمل نفسه وعناصره: فالفكرة التي قد تكون مطروقة من قبل، تعاد صياغتها بشكل يجعل منها متجددة، أو تغيير في نمط سلوك الشخصيات بحيث لا يتشابه الشرير -مثلاً – في عرضين مسرحيين لنص واحد. رغم هذا التجديد، يخرج المتلقي بطمأنينة أن كل شيء على ما يرام، وأحياناً توقع الفعل حسب مسار الشخصية وردود أفعالها، مقارنة بمن حولها، وأيضاً سيرة المخرج في مجمل أعماله. وهكذا بالفعل يكون “كل شيء على ما يرام”، فتخرج من عمل مسرحي، مهما كان مستواه، ثم تنساه بعد أن تلهو في أمور أخرى.

هذا ليس عيباً كبيراً في العرض المسرحي، لكنه قصور في الرؤية – ربما -، فمن يتاح له أن يخرج عملاً مسرحياً من نص قرّاؤه محدودون بالعدد – وهذي نتيجة مستخلصة من إقبال القراء عموماً المهتمين بفنون السرد الأخرى -؛ لا بد أن يظهر بما هو أكثر من “التنفيذ”؛ تنفيذ الشخصية وبقية العناصر التي تساهم في جعل العمل لطيفاً وقابلاً للمشاهدة والمتعة، وبين أن يوقظ بين ثناياك ما هو موجود وخامل ربما، حسب ذاكراتك الحسية، والتاريخ الذي تحمله بدون تخطيط ولا قراءة. فأحداث المجتمع حولك، وتقسيماته المحسومة منذ الصغر، تخلق هذا التاريخ دون بذل أي مجهود.

  “المطبخ” أحد هذه العروض التي تنخر بأدوات بسيطة في أمراض اجتماعية مزمنة، الذي سبق عرضه في مهرجان إيزيس لمسرح المرأة في سبتمبر 2021. ومن العرض الأول، يتبين أنه مختلف على نحو ما، لا يصب أفكاره بطريقة مباشرة، بل يلقيها على جرعات مخففة، بحيث تعيد تشكيل الجملة الحوارية مرات ومرات في داخلك! ولأجل ذلك، كان حرص المشاهدة للمرة الثانية في مهرجان المسرح القومي، أغسطس 2022، لمراجعة الأفكار التي وصلت منذ المشاهدة الأولى، أو بلفظة أدق: “الدهشة” التي تجعل من حدث عادي فعلاً ممسرحاً جديراً بالالتفات.

في “المطبخ” هناك أريكة خشبية تتوسط الخشبة، تشبه في تكوينها آلة الهارب الوترية، أو هكذا توحي شكلياً في عدم تساوي الطرفين، لكنها لا تقارب المعنى بالطبع، حيث الفتاة المتكومة في طرفه بملابس لا توحي بأي حالة، تكتب قصاصات بين حين وآخر، وترميها، لا يبدو ما تخربشه مهماً لكن في الحقيقة هو لب شخصيتها ومفاتيح قراءتها! اللون الأصفر الباهت في مجمل شكلها؛ الشعر/ البشرة، ولون الملابس، والإضاءة التي ترسخ اللون بقصدية الإحساس بالقلق وعدم الاستقرار والمرض، وتحديداً مرض العلاقات الاجتماعية. فهذه الأريكة هي بيت الزوجية، وهي كل ديكور العرض، مع الحديث عن المطبخ وغرفة النوم على اليمين واليسار، لأهمية ذكرهما في سياق الحديث. يتكرر الحوار الدائري بينها وبين الزوج -باللهجة المصرية- على نحو ينحو للعبثية: طبخت لك الأكل الذي تحبه/ ولكنك لا تحبينه؟ / سآكل أي شيء آخر/ لقد قلت هذا أمس وقبله وقبله!

مستوى الأداء في هذا الحوار المتكرر يبين الانفعال المبالغ فيه -والمقصود أيضاً- بين الزوجين، بينما هي تحتفظ بهدوء ناضج مستغرب، ظاهره برود مستفز، وباطنه عمليات حسابية متعلقة بما كانت فيه عند أهلها، وما آلت إليه عند زوجها. كانت تعتقد أنها ستنتقل إلى وضع أفضل، وليس إلى جحيم حتى نهاية العمر! ويكتشف المتلقي السلوك الملتبس حينما يدعو الزوج زوجته، بعد حوار الطبخ والطعام، للفراش بشكل آلي فج: إلى السرير بعد دقيقة من الآن! هنا تذوي الشخصية المدعية للهدوء، وتتكوم أكثر وهي تحاول التعلل بحجج الوقت الشهري، أو التعب، أو عدم الرغبة. ولأن هذا يتكرر كثيراً، فهو مدعاة لتعنّت الزوج أكثر، دون بحث في الأسباب لرغبة طبيعية مع الشريك “الصحيح”، وهذا لا يحصل أبداً، لذلك يتكرر الطلب الفج، وتتكرر الأعذار.

والسبب الذي يكشف عن نفسه لاحقاً في قصاصاتها، هو في كونها عانت من انتهاك جسدها في الطفولة من قبل العم، ولم يعبأ بها أحد، أو يصدقها حين اشتكت، وتم احتواء الموضوع كأنَّ شيئاً لم يكن، وكأنَّ الوقت يمكن أن يمحو ما حدث لذاكرة جسد أنثى من يفترض به الحفاظ عليه وحمايته من الآخرين، غير مدرك أن هذا الجسد سيتأذى طويلاً وكثيراً، مهما طال به الوقت. ولأن هذه الحكايات التي نظن غالباً أنها بعيدة عن محيطنا؛ لا تسمع إلا همساً وخفاءً أو في صفحات الجرائم التي تسترق الحكايات من قضايا مراكز الشرطة، وما يحدث فيها من غرائب، لا يخطر على بال أن تحدث في المجتمع الذي نعرفه ونتعامل مع أفراده، فاحتمالية تصديقها صعبة، وإن صدقت فلا بد من طمس الموضوع ولملمته؛ ظناً بأن مصيره للنسيان مع الوقت. أما وقد انطفأ هذا الجسد قبل الاشتعال، فلن يستطيع أن يوقد مجدداً مثل عود الثقاب المقرون بشرف الأنثى. هنا اشتعل في غير مكانه، فاستخدم على النحو الخاطئ الذي جعل من الغريزة الطبيعية ذاكرة سيئة لا يتحرر معها الجسد المرتبط بأثر سيء وغائر. فكيف لزوج لم يفكك عقدة مربوطة بإحكام، أن يشتكي بعدها من سوء حياة زوجية؟ 

ولأن هذه الحياة الخاصة هي عماد مهم في الزواج والشراكة، بالإضافة إلى مشتركات أخرى تولد انسجاماً وعشرة تصلح لحياة طويلة ومقبولة – إن خفّ وهج الشغف الأول -، فمن المتوقع أن يكون الزوج هو الشخص “القالب” الموجود في معظم بيوت البسيطة، الذي يستخدم الزوجة في غريزتيه الأساسيتين: الطعام والجنس، وعندما لا يجد لذة فيهما، لأنه بلا شريك حقيقي في الاثنين، يهرب إلى الرسم الذي يعتقد أنه موهوب فيه، ويسأل بين حين وآخر عن السيدة المجهولة التي أبدت إعجابها بلوحاته، وعبرت عن رغبتها بشرائها، رغم أنه كان يرسمها بدفتر Sketch صغير، يبدو أن لا جمهور لإبداعاته سوى الزوجة التي لجأت إلى هذه الحيلة كي تمد معه حديثاً يمس ما يعتقد أنه شغفه.

وحين يحاول استفزاز أنوثتها كزوجة، يهددها بأن يحضر معه فتاة ليل متمرسة، يظن أنه يمكن أن تحرك هذا البرود الذي لا يفهمه! وإذ بها تكون الحجر الذي بدد سكون الماء؛ هذه المتعودة أن تستخدم جسدها كمصدر رزق، لا تبدو رخيصة ولا ذليلة. ما يمنحه الزبون؛ هي من يختاره، وتحدد المبلغ المطلوب، والوقت أيضاً حسب رغبتها. وما أبدته من شك، ومحاولة تراجع حازمة إزاء وجود الزوجة في وجودها غير المنطقي، نسفه قول الزوجة بأنها لا تمانع في وجودها، وأنها ستكون في المطبخ، حتى لا تكون مصدر إزعاج ريثما ينتهي كل شيء على السرير في غرفة نومها!

هذا الشكل غير المعتاد من العلاقات التي تعرفها المومس، بحكم كم الناس المتنوعين الذين تقابلهم، والأكيد أن لها خبرتها المختلفة في التعامل دوناً عن الزوجة حبيسة البيت/ الحياة. وفي هذا الالتقاء قطبان مختلفان في السلوك، والنظرة إلى الأمور، وتحكيمها؛ التفكير البكر، وتسليع الجسد بمقابل مادي، الحكم على الزوج من منظورين: احترام وتقدير مبالغ فيه من الزوجة، مقابل بخل مادي وعاطفي وفجاجة لا حدّ لها. والمنظور الآخر هو تعامل المومس بدونية، واستغناء، وإمكانية فض الصفقة في أي وقت تختاره هي أيضاً. عملية تقارب الشراء من المحلات الكبيرة التي تبيع السلعة متسلحة بالاسم المعروف، وتعي اللهاث لاقتناء شيء منها. لذا فشروطها مفروضة، والزبون هنا ليس على حق، وكل ما يفعله هو الرضوخ فقط.

مع التقاء القطبين، يحدث التأثر المتوقع في الشخصيتين. فكلتاهما تدخل مخاض التفكير فيما هي عليه، والصورة البصرية الناطقة صمتاً، التي جمعت الاثنتين في كادر واحد، عميق الرؤى فوق الأريكة، وتحتها، وما بينهما زوبعة أفكار. المنبه الذي يسوق العاملة لتأمل قيمة ما تبيعه برخص، حتى مع سعر عالٍ، والزوجة التي يتوضح لها حجم زوجها، وحدوده، حتى تقرر أن تغير ثوبها المنزلي الوحيد، وتأخذ ما تحتاجه، لتصفق الباب وراءها، كما فعلت نورا ببيت دمية إبسن، القرار الذي أخذته بعد يقين أنها ستمضي قدماً، أياً كان ما يحمله القادم.

المفاجأة أن مؤلف ومخرج “المطبخ” هو نفسه الشاب محمد عادل، وهذا ما يدعو للارتباك في أكثر من جانب؛ حيث تؤكد التجارب المختلفة لمخرجين متعددين لهم سير جيدة في المسرح، أن “الاستحواذ” على صفتي الإخراج والتأليف غالباً يأتي بنتائج أقل من المتوقعة، وقليل يصل للندرة من قد ينجح بنفس كفاءة التركيز على إحدى الصفتين ومناولة الأخرى لأهل الاختصاص، ممن يمكن أن يطور من العمل برؤيته. وما حدث هنا أن كل العناصر طوّعت من أجل خدمة الفكرة التي سقاها العرض لمتلقيه جرعات من دواء مرّ، لكنها جرعات صغيرة وفاعلة! فالنص، بعيداً عن العرض، قد يبدو عادياً، أو مأخوذاً عن فكرة أجنبية لا تمتّ لبيئاتنا العربية بصلة، بلا متغيرات هائلة، ولا مفاجآت تذهل، ولا حتى قام العرض بالاشتغال على الإثارة البصرية التي قد تلهي بعض المتلقين عن لب الموضوع بالإبهار.

وما حصل هو أن عادل أتى بحصيلة أفكار مجتمعية، وأعاد تسطيرها بشكل غير مألوف عن مجمل مشاهداتنا فيما يخص قضايا المرأة مثلاً، عدا الأفكار الأخرى التي تحمل أكثر من وجه وتفسير، كموقف الزوج المألوف الذي يطالب بحقوقه حتى التمام في كل شيء. كل العناصر قدّمت بهدوء العارف الواثق، بالرغم من حداثة عمر المخرج وتجربته الإبداعية. الإضاءة المحسوبة بدقة، والموسيقى المتقنة، والمؤلفة خصيصاً للعرض لتناسب الفعل الذي يتطور على مهل. بيد أنه منظور ناضج، لعل بعضاً منه من مخرجات حاضنة نهاد صليحة، التي خاضها المخرج سابقاً بهذا النص، والأكيد أن رؤيته هي التي تفوز في النهاية، بحيث يخرج المتلقي متيقناً أنه عنى المجتمع الذي يحضر، ويطهو، ويقدم بمقاييسه عنوان العرض “المطبخ”، وليس المكان الذي كان على يسار خشبة المسرح.

هوامش

  • عرض المطبخ من تمثيل: لبنى المنسي/ محمد شكري/ ليلة مجدي/ أحمد عادل/ إضاءة: حسن محمد/ ديكور: سلمى أبو الفضل/ موسيقى: معتز الأدهم
  • فاز هذا العرض في مهرجان المسرح القومي، أغسطس 2022م، بـخمس جوائز: أفضل مخرج صاعد/ أفضل إضاءة/ أفضل ممثلة صاعدة/ أفضل عرض ثانٍ/ أفضل مؤلف مسرحي.

1 تعليق

Comments are closed.