في الرقة والتفاصيل الصغيرة، بين أسطر الروايات التي نقرأها في لحظات معينة، ووراء المقطوعات الموسيقية التي نسمعها بالصدفة، مادة “خام” تعطي لحكايتنا في الحياة معناها.
قد يكون معنى الحياة في المطلق ليس مسألة فردية بحتة.. فمعنى الحياة لاحق لوجودها، وما المشاعر الإنسانية من حبّ وكراهية وكل ما ينبعث من خلجات الروح من وعي وأنماط سلوك، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمفهوم الذي خلعناه على حياتنا وعلى الحياة عامة. وكل تململ وسأم أو رفض وتمرد ما هو إلا تعبير عملي على الاعتقاد السائد بأن ثمة خرق للمفهوم الذي نصوغه في أدمغتنا لـ معنى الحياة.
معنى الحياة إذن كلمة واسعة لا يحدها مفهوم واحد، فإن كانت السعادة تأتلف من الغيوم عند الفلاح والشاعر، ستبدو أيضاً متفاوتة في ماهيتها. وكم هو بليغُ وآسر.. المطر في عين الفلاح!
قد يتجلى المعنى الذي تصوغه مواقفنا من الحياة نابضاً بالرضا والحبّ.. أو بالمقت والقنوت، غير أنه قد لا يتضح إلا إذا بدت العلاقة مع الحياة منسجمة، من حميمية الأشياء الصغيرة، عبوراً بالطبيعة والسعي وانتهاءً بالوجود. فكيف ستهز كتفيك أمام الحياة وتتأفف أمامها دون أن تحبّها سلفاً؟
يقول فرويد أن آريس “إله الحبّ” مولود معنا ومقيم في أرواحنا، وبأنه ليس إلهاً يأتي من الخارج. في الوقت الذي يغفل عن أن ثانتوس “إله التدمير”، مولود معنا أيضاً وقادر على قتل آريس واحتلال كينونتنا. ولأننا خليط من بناء بيولوجي موروث، وطفولة ناعمة وتنشئة أسرية ووعي اجتماعي وثقافي مختلف، تتباين معانينا بين الحبّ والتدمير ومدى طغيان نصيب أحدهما على الآخر.
وبوصف الحبّ والتدمير غريزتين، فإنهما يخضعان لتحوّل عبر الثقافة، ونادرًا ما يظهران في صورتهما الطبيعية. يقول الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز؛ “في المجتمعات المستقرة ذات الحياة المتميزة بالوفرة وتلبية الحاجات الضرورية، والمتمتعة بحظ جيد من الأمان والحرية والحق المقونن، يحضر الحبّ كسمة عامة من سمات هذا المجتمع، ويغدو التدمير حالة فردية أو محدوداً في جماعات صغيرة، وبالعكس حين يعيش مجتمع ما تحت حكم دكتاتورية، والدكتاتورية عنيفة بالضرورة، وحياة ملؤها الخوف والغضب والفقر؛ فإن غريزة التدمير تنمو نمواً سرطانياً، وإن كانت مكبوتة بسبب القمع الذي يحول دون ظهورها، فغريزة التدمير التي يُظهرها النظام المستبد تخلق نظيرها وتتراجع غريزة الحبّ وثقافتها المعشرية”.
وبالتدقيق في مفاهيم الحق والحرية والديمقراطية والتعاون والعدل والكرامة؛ فسنجد أنها تعبيرات سياسية واجتماعية مبعثها أخلاقي لانتصار غريزة الحبّ وطرد كل آثار غريزة التدمير، دون أن يستدل ب على انتصار الحبّ على التدمير انتصاراً كلياً، بل إن الثورات إذا ما وقفت عند مرحلة التدمير، فإنها تُعيد بشكل أو بآخر إنتاج ممارسة غريزة التدمير.
حين تتخذ موقفك من الحبّ كشاعر مثلاً، فإنك قد لا تقيم مسافة بينك وبين الحبّ، بل إن حديثك الشعري هو الانعكاس الحقيقي لتجربة الحبّ، فليس الحبّ عند الشاعر بنص يكتبه، بل إنه الذات وقد صيغت بالحبّ فتسيل الكلمات كصياغة خالصة للتجربة الروحية.