الشخصية والنهضة

0
42

عندما يحاول الإنسان تأمل المفاهيم المهمة في هذه الحياة، يجد أنها ترتبط كثيراً بالشخصية، أي بمكانتها وأهدافها. هذه الشخصية التي ينشأ معها الإنسان، بمراحلها وصورها المختلفة، من التربية العائلية والبيئة الاجتماعية، التي لها تأثير كبير في خلق شخصيته، وعندما تكون هذه البيئة على عناية واهتمام بالشخصية، أي بمكانتها ووجودها، فإنَّ الفرد حينها، ينشأ على مستوى كبيرٍ من النضج والثقة. ونستطيع تعريف هذا الاهتمام من خلال القيم الايجابية والتربية الحديثة، التي تتلخّص في الأفكار الراقية والهادفة، التي تعينه على طريق المستقبل.

إننا في هذه الحياة، ومع زيادة التمدُّن والتنـوير والثقافة، ندرك بشكلٍ كبيرٍ جداً مكانة الشخصية، في بناء وتقـدُّم المجتمعات. ونحن في مجتمعنا الحاضر، الذي يسير في خطواته الأولى نحو النهضة، يحتاج إلى الكثير من المعاني والأفكار التي تعينه على هذه الخطوات، وما يترتب عليها من مسؤوليات، تجاه الحياة العصرية والأجيال القادمة.

إنَّ التقـدُّم الذي تزدهر به المجتمعات الحديثة اليوم، إنما هو نتاجٌ لأفكارٍ هادفة، أطلقها الناهضون بمجتمعاتهم نحو الأفضل، أي نحو الخير العام، الذي يرتقي بالحياة والإنسان. ومن خلال هذه المقالة، سنقوم بالإضاءة على شخصياتٍ نهضوية، ساهمت بوجودها في الارتقاء الاجتماعي، وهما السيد (أوليفر وندل هولمز)، الأب والابن.

نقرأ على مدوّنة (ويكيـبيديا) سيرة هولمز الأب، فهو الطبيب والكاتب، الذي رفض المفاهيم والموروثات الجامدة، في البيئة العائلية والحياة الاجتماعية، فكافح ذلك بتبنّي الحياة المتمدّنة العصرية، التي ترتقي بمكانة الفرد والإنسان. وهنالك اقتباسٌ على صفحات المواقع المهتمة بالكلمات الهادفة (ولسنا متأكدين من قائلها، لتشابه الاسم بين هولمز الأب والابن) ولكننا واثقين من جوهرها، فيقول السيد هولمز الأب، هذا الاقتباس التالي: “علامة الإنسان المتمدّن، أنْ يشك في مُسلَّماته الأولية”.

ونستلهم من هذه المقولة، مكانة التفكير لدى شخصية النهضة، أي في العقل العصري، الذي يرتقي عن الموروثات والتقاليد بالنقد والتحليل.

أعتقد أنَّ الثقافة العصرية اليوم، تدرك مكانة النقد في التطوّر والنهضة، فالأمم والمجتمعات تنهض بالوعي والمسؤولية، بل تنهض بتبنّي المصلحة العامّة التي ترتقي بالمجتمع والحياة. ومن خلال كلمات هذا الطبيب والحكيم، نتعرّف على الجرأة والبصيرة في أفكاره، التي نسترشد بها في مسيرة التقدُّم. ولأننا في هذا المجتمع، البحريني خصوصاً والعربيّ عموماً، بحاجةٍ كبيرةٍ لمفاهيم الحضارة الانسانية، ولتبنّي القيم العصرية على المفاهيم التقليدية، التي يتـمُّ تقديسها بواسطة الجهل والتقاليد، علينا الوقوف عندما يقوله هولمز الأب، عن دور هذه الموروثات في التخلُّف، التي تصطدم بها المجتمعات في خطوات نهضتها الأولى، والتي نقرأها من خلال الكلمات التالية: “نوصم جميعاً في مهودنا، بمعتقدات القبيلة التي ولدنا فيها”.



وهذه المقولة المليئة بالحكمة، توضّح لنا النظرة لفلسفة النهضة، فهو يرى أنَّ الإنسان في كل المجتمعات والأقطار يصطدم بموروثات الجماعة والبيئة التي ينشأ فيها، التي تميل غالباً إلى التقاليد ومكافحة التطوّر. ولأننا في مراحل النمو الأولى للنهضة، أعتقد أننا نواجه مثل هذه التحدّيات، التي يدركها الفرد النهضوي الهادف، فيسعى لعلاجها بقيم الوعي والتنوير.

لقد تكررت في سطور هذا المقال كلمة التمـدُّن، ومن المسؤولية أنْ أتوقف من أجل تعريفها، فإنني أعتقد أنَّ معناها هو: الحياة الأكثر تنظيماً وتقديراً للإنسان؛ أي تلك الحياة العصرية الراقية، المعنيّة بمكانة الفرد، شخصيته وحياته. ولذلك أراها غايةً وهدفاً، تعكس معنى الحضارة، التي يبنيها الأفراد بالتعاون والخيـر العام، فيكون بذلك، المجتمع الإنساني المنشود.

إنَّ طريق النهضة هو النور الذي نرى به المستقبل. طريقٌ مُشيَّـدٌ بكل ما أنتجته الحضارة البشرية من علوم ومعارف، تلك التي تساهم بارتقاء مبدأ الحياة، ذلك الذي نحيا من أجله جميعاً. وقد قرأنا في أحد فصول كتاب سلامة موسى، الذي عنونه باسم: محاولات، ما يساهم بتأكيد فكرة النهضة وشخصيتها، لذلك نصل الآن إلى شخصية (أوليفر هولمز) الإبن، قاضي المحكمة العليا في الولايات المتحدة، وعن سيرة حياته المليئة بالخير والحكمة.

إنَّ شخصية النهضة تتمثل في الرؤية والبصيرة، بل في شخصية الوجدان الانساني، الذي يتبنَّى المعاني الكبيرة في الحياة، عبر الاسهام في الخير العام، من خلال الفلسفة النبيلة التي ترتقي بمكانة القيم البشرية. هذه الفلسفة التي أفهمها في معاني: الخير والعدل والحب. فهذه القيم السامية، هي اللوحة الأجمل التي يصوغ بها الإنسان حياته.

ونقتبس هنا، مما كتبه سلامة موسى، في مقاله الرائع، هذه الكلمات التالية: “من أجمل الكلمات الخالدة التي فاه بها هولمز، أحد القضاة في المحكمة العليا في الولايات المتحدة، قوله: الحياة صورة نرسمها، وليست أرقاماً نجمعها”. نعم، إنَّ هذه الكلمة الابداعية، توضح لنا شخصية النهضة ومكانتها، في تشييد وصياغة المستقبل. فإنَّ الفكر المخلص للحياة، ما هو إلاَّ انعكاسٌ إلى شخصية العقل الراقي والفنَّان، الذي ينشد دائماً النهوض والارتقاء.

في الحياة الشخصية لهولمز، نستطيع أن نرى معنى الحياة الهانئة والسعيدة التي تحياها الشخصية الراقية، فقد عاش حياةً مديدةً من الحب والرفقة، مع زوجته العزيزة، والتي استمرت 56 سنة. ومن اللباقة والشرف أن نكتب اسم هذه المرأة والإنسانة، وهي السيدة (فاني بوديتش).. فلها منا كل التقدير والاحترام.

إنَّ تأصيل شخصية النهضة في حياتنا، يجعلنا نشعر بالمكانة والرضا في وجودنا الحاضر، وبالتأكيد ستمنحنا الثقة في المستقبل، التي تتأصل فيه قيم الخير والارتقاء، أي بكل ما يساهم بخير الحياة والطبيعة والإنسان. وعندما نضيئ على الطبيعة، أي البيئة والأرض، فلأنَّ لها منا، نحن البشر، حقاً كبيراً جداً، في رعايتها وحمايتها من مفاهيم التدمير والفناء، التي يحاول الغباء والأنانية تجاهلها والهروب من مسؤولياتها. فإنَّ كلمة النهضة هي تجسيدٌ للمشروع الشامل، الذي يكافح كل السلبيات المسيئة، إلى المصلحة العامّة والمصلحة الانسانية.


وعندما نقرأ ما كتبه سلامة موسى، عن السيد هولمز الإبن، نستلهم الكثير من سيرة حياته الحافلة، والتي يضيء عليها من خلال الكلمات التالية: “ولكنه عرف ما هو أحسن من المجد ومن السعادة، وهو الخدمة؛ فإنه قضى عمره كله، وهو يخدم ويؤدي عمل الرجل الصالح، وهو أنْ ينتج للعالم أكثر مما يستهلك”.

ويختم سلامة مقالته، بهذه الخلاصة: “ولأنَّ الحياة ليست أرقاماً نجمعها، وإنما هي صورةٌ نرسمها، بحيث نعرف قيمتها، بما تحوي من ملامح جميلة جليلة، وألوان زاهية نضرة، وبما أنتجته لنا من تربية وتثقيف، تمتلئ منهما عقولنا نوراً وبصيرة”.

إنَّ شخصية النهضة ليست مرتبطة بالرجل وحده، بل بالمرأة أيضاً. وفي التاريخ، خاصة الحديث منه، من الشخصيّات النسائية البارزة، ما يؤكد حضور المرأة وجدارتها، ومساهمتها الايجابية، بل الاستثنائية، في مجالات الحياة المختلفة. إنَّ الحاضر اليوم، يثبت دور المرأة في التقدُّم والحضارة، ولكننا نطمح بالخطوات العظيمة، في الارتقاء عن المفاهيم الذكورية، البعيدة عن الإنصاف والعدالة، التي لا زالت مترسّبة في ثقافتنا الاجتماعية، من خلال الجمود الفكري والتقاليد السيئة، التي يرتقي عنها ويكافحها المنتمون إلى التقـدُّم والحياة.