نيكوس كازانتزاكس في “تقرير إلى غريكو”

0
107

من فرح التجوال في وطنه اليونان إلى الفضاءات الأوسع

كم هو صعب وعسير أن تقرأ سيرة فكرية لا سيرة ذاتية، وإذا ما عرفنا بأن صاحب هذه السيرة هو نيكوس كازانتزاكس فإن الصعوبة تزداد وتتعمق لما للأسلوب الصعب والمعقد الذي يكتب به. فالكاتب يلخص مسيرته الفكرية، وهذا يعني بأنه يلخص الأفكار التي يحملها والتجارب التي عاشها من خلال ما كتبه من روايات أو من خلال شخصيات تلك الروايات، وهذا ما يتجلى في روايتيه “زوربا” و”القديس فرانسيس الأسيزي: الفقير لله”. فقد بدأ التقرير في خريف العام 1956 وكان يقول بأن عليه أن ينهيه قبل أن يذهب الى (هيدس) والمقصود هنا مثوى الأموات في الميثولوجيا اليونانية، وقد كتبت زوجته (هيلين) في مقدمة هذا الكتاب بأنه أي كازانتركس “كان نقياً ودون مكر، وبريئاً وعذباً بلا حدود مع الآخرين، وقاسياً مع نفسه فقط. وحين ينسحب الى عزلته، فإنه كان يفعل ذلك لإحساسه أن الأعمال المطلوبة منه قاسية وأن ساعاته محدودة”، فالمسيحية متأصلة في أعماقه ومع ذلك لم تشف غليله ولم تشبع فضوله العقلي فأخذ يبحث ويقرأ المزيد عن القديسين ومحن الشهداء ليزين بخياله حياتهم كما يقول.

 وحين يتذكر طفولته يذكر لنا التالي “كل ما ترسب في عقل طفولتي تجذّر فيه بعمق كبير. وكنت قد تلقيته بقدسية، إلى درجة أنني، وأنا في هذا العمر المتقدم لا أتعب أبدًا، من تذكره وإعادة إحيائه بدقة متناهية أتذكر لقائي الأول بالبحر والنار والمرآة وبروائح العالم”. وحين أراد كتابة مذكراته كان يود أن يحصل على المزيد من الوقت، ولهذا لم يضيع أية دقيقة فقد كان يسابق الزمن وهو في عمر متقدم وعليه أن ينجزه قبل فوات الأوان، فيقول “لقد غربت الشمس، وأصبحت التلال معتمة، ولاتزال حواف جبال عقلي تحتفظ بالقليل من الضوء على قممها، لكن الليل المقدس يهبط”.

 فالتقرير، أي المذكرات، موجهة كما هو واضح، إلى جد الكاتب غريكو الرسام الشهير وبالتالي كل المخاطبات تنمّ عن التواصل الوجداني بين مختلف الأجيال اليونانية، ومن هنا سر فن إيصال الفكرة التي لم أجدها عند أي كاتب آخر. فهذا الكاتب العصامي عانى الكثير في طريق البحث عن الخلاص، كما  كان يطلق عليه، وهذه السيرة تبين مقدار هذه المعاناة، فمنذ الطفولة بدأ مشوار البحث، ومن كريت مسقط رأسه إلى جبال اليونان وبحارها وشواطئها وجزرها الخلابة حيث كان الحج عبر اليونان  كما يسميه، وقد  استمر لثلاثة أشهر وكما قال: “الترحال عبر اليونان فرح حقيقي واغتناء عظيم”، وبعد هذه الجولة المفعمة بروح البحث انطلق لفضاءات أوسع، العالم، وكانت محطته الأولى إيطاليا وعنها يقول: طوال شهر العسل ذاك في  إيطاليا كنت حرًا دون مشاكل ميتافيزيقية، ودون قلق حول الحب. أفراحي لم تكن تشوبها شائبة. ولحبه لإيطاليا ولمدينة أسيزي تحديدًا أصدر روايته الشهيرة “فرانسيس الاسيزي الفقير لله”.

 وعن تلك المدينة يقول بأنها أكثر المدن قداسة، فإيطاليا قد هيمنت على روحه كما روحه هيمنت على إيطاليا واتحدتا اتحاداً لا انفصام بعده كما يقول، فتجربته في إيطاليا كانت غنية الى تلك الدرجة التي صوّر بها ذاك الالتحام، ففي ساحة ديكساميني كان يجلس في زاوية ويصغي كما يقول وكنت اثرثر، ولا أتردد على الحانات ولا ألعب الورق. كنت شخصا لا يطاق، فحب الناس عن بعد كان أسلوبه للتأمل والتفكير والكتابة، وكأن التصوف قد داهمه، بعدها توجه في رحلة إلى القدس ليواجه مصير تلك الحقائق التي تلقاها من مدرسيه الأوائل ويتوقف عندها: “الجراح القديمة التي أصبت بها خلال بلوغي، حينما أفشى لي معلمي باالسرين العظيمين، أن الأرض ليست مركز الكون، وأن الانسان ليس مخلوقا متميزاً نازلًا مباشرة من يد الله”. وهنا تحديدًا، أي في القدس، يواجه مصيره بشجاعة ويتخلص من بعض الأوهام الميتافيزيقية التي علقت بعقله ليصارع ويتصارع مع القديسين والشياطين ليلفظ الى الأبد عن كاهله الكهنوت، وأصبح الصعود في كفاحه هو الهاجس المؤرق له دائماً وأبداً وانتهى بمقولة جميلة معبرة كل من يقتلع غرائزه يقتلع قوته.

وفي ذلك المشوار الطويل يلتقي نيكوس كازانتراكس بنيتشه العظيم، كما يسميه، في باريس، من خلال تلك الطالبة الجامعية المجهولة التي التقى بها في مكتبة سانت جنفياف والتي فتحت عينيه على نيتشه ليتعرف بعدها على كتاباته الفلسفية “ولادة التراجيديا” و”هكذا تكلم زرادشت”، “هوذا الإنسان أفول الأصنام”، ليقول بعد ذلك: كانت تلك واحدة من اللحظات الحاسمة في حياتي، كان الغذاء الذي غذاني به نيتشه في تلك المرحلة الحاسمة النهمة من شبابي غذاءًاً قوياً كغذاء الأسود. كنت قد كبرت بسخاء”. ومن خلال تعرفه على نيتشه تؤصل إلى مبتغاه ليقول كم من السنوات قد عشت من دون أن أعي ذلك! كان من الضروري أن يأتي النبي القاسي ويفتح عيني، فثلاث تحيات لنيتشه فهو الذي مدني بالشجاعة للقول: إن هذا ما أريد”.

هل تعب من الترحال واستقرت روحه؟ مثله لا يتعب فالكفاح والصعود درجات يؤرقه ويبقيه في حالة صعود دائم واليونان مبتدأه ومنتهاه ليقول أينما ذهبت وحيثما حللت فأنني أمسك باليونان بين أسناني كورقة من الغار. ويظل في حالة من التنقل الدائم ليمكث في فيينا تلك المدينة الفاتنة الضاحكة والتي يعتبرها ربّة رابعة بعد تاليا، أغلايا، يوفروسين وهن ربات للحسن والجمال وكن وصيفات لافرودايت يعتنين بزينتها.

 في رحلة الصعود والبحث عن الخلاص تلك يصل إلى برلين، وفي هذه الأثناء كان قد تعرف على بوذا وتعاليمه بعد تشبعه بتعاليم المسيح والقديسين وكهان المعابد، وتعلم منه القدرة على رؤية الأشياء ونبذ الكراهية ليردد مقولة بوذا الشهيرة: “إذا رددنا على الكراهية بالكراهية فلن يتحرر العالم من الكراهية. فالأسئلة لا تتوقف والبحث مستمر والصراع من أجل الصعود الى قمة جبل الحقيقة يتواصل، فواحد من مثل كازانتركس لايكلّ ولا يمل، ومثله الأعلى يتراقص ويرقص مثل زوربا في تلك الرواية البديعة وظمأ البحث عنده لايتوقف ولا يرتوي من شرب فلسفة هنا أو طقس هناك، فهنا يتوقف ملياً عند لينين بعد وصوله الى روسيا ليصل الى قناعة من أن الانسان في حاجة إلى الجنة على الأرض وليس السماء، وهذا لا يتحقق سوى بالنضال من أجل العدالة الإنسانية وعندها كان يقول: إن هذا هو صوت روسيا. وأقسمت على أن أتبعه حتى الموت، لقد كنت أعني ما أقول كنت مصممًا على التخلي عن حياتي. فهمت لأول مرة أي فرح لابد أن يشعر به أولئك الذين يرجمون أو يحرقون أو يصلبون لأجل فكرة. كانت أول مرة أمارس فيها معنى الأخوة بهذا العمق، ومعنى أن البشر كلهم واحد، وأدركت أن هناك هبة أسمى من الحياة وقوة تقهر الموت.

ومع ذلك ظلّ في حالة ترحال حاملًا معه أسئلة وباحثا عن أجوبة، وظلت كريت معبودته محمولة أينما حل وأينما ارتحل، كما اليونان بجمالها وعظمتها ليعيد له زوربا ألقه وفرحه، فزوربا بالنسبة له كما يقول دليل روحه، لما يتمتع به من خصال فهو يمنح العذرية إلى العناصر اليومية والأبدية: الهواء والبحر والنار والمرأة والخبز، كما يتمتع بيد واثقة وبقلب طازج وعذب. فلا غرو أن يفرد له رواية من أجمل الروايات كلما قرأتها تعيدها وتعيدها مرّات ومرّات. فقيمة الانسان عند نيكوس كزاانتراكس لا تكمن في النصر بل في الكفاح من اجل النصر. إن قيمة الانسان كامنة في شيء واحد فقط هو: أن يعيش ويموت بشجاعة دون التنازل بقبول أي جزاء، وهذا ما قام به في مذكراته هذه تاركا لنا وصايا من ذهب وبتلك الفلسفة عاش ومات، فكم كان حريصاً على الوقت، فقد كان يقول حين أرى الناس خارجين للنزهة، أو يتمشون دون هدف، أو يبددون الوقت في مناقشات لا طائل منها أحس بالرغبة في الذهاب الى ناصية الشارع لمد يدي مثل شحاذ وأطلب منهم: صدقة أيها المسيحيون الطيبون. امنحوني القليل من الوقت، ساعة، ساعتين، أي شيء تحبون.

 فما أعظمه وما أجلّه من إنسان بهذه المواصفات. وبعد كل ذلك هل من عتاب يمكن أن يلقاه من جده غريكو، ذلك الرسام البارع مع هذا الحفيد الرائع وهل أجمل من هذا التكامل الوجداني والفكري والفني وبعد كل ذلك ألم تثمر الأوديسة بهذا العمل الفني الفكري الذي أبدعه كازانتركس؟.