أحد الأسئلة التي تُطرح بين السياسيين، هل يوجد مجال في عالم السياسة لضرب من ضروب الصداقة بوصفها علاقة اجتماعية وإنسانية تربط شخصين أو أكثر على أساس من الثقة والمودة والتعاون بينهما؟ أم إن السياسة بوصفها فعلاً براغماتياً نفعياً، لا يمكن أن يكون لها سبيل إلى معنى الصداقة المنَّزه عن الدسائس والمؤامرات التي تزخر بها سياقات السياسة وأفعالها؟
الشاهد أن فكرة الصداقة المجردة قد حظيت باهتمام بالغ عند معشر الفلاسفة والمفكرين والمثقفين، وكذا علماء النفس منذ زمن طويل، ويميل الكثير منهم إلى وضع ثلاثة أشكال من الصداقة هي: الصداقة من أجل المتعة، وهذه تظهر قيمتها بدرجة الشعور بالسعادة عند ملاقاة الآخر. الصداقة من أجل الفضيلة: وهي التي تنشأ بين العناصر الصالحة في مجتمع بعينه. الصداقة المبنية على أساس المنفعة؛ وقد تكون هذه بالفعل أقرب الأشكال للصداقات السياسية، وأبعدها من النماذج المثالية للعلاقات الإنسانية؛ حيث تُحدَّد قيمتُها في نظر الأفراد بمقدار ما يستطيع الفرد أن يحصل مقابل ما يعطي غيرَه.
تذكر الكاتبة البريطانية سارة بكويل في كتابها “على مقهى الوجودية” أنه في إحدى أمسيات عام 1946 التي جمعت سارتر وبوفوار وكامو وكوستلر، أُثيرت مسألة الصداقة والالتزام السياسي. وطرح السؤال التالي: هل باستطاعتك أن تكون صديقاً لشخص إذا اختلفت معه سياسياً؟ قال كامو تستطيع. وقال كوستلر لا، مستحيل. بينما اتخذت بوفوار جانب كامو: ممكن، ونحن الدليل على ذلك في هذه اللحظة، فنحن سعداء بالتواجد معاً رغم كل خلافاتنا. وأُثير سؤال الصداقة ثانيةً بين الأصدقاء أثناء جلسة شراب صاخبة، وفي هذه المرة خرج كوستلر عن طوره وقذف كأساً على رأس سارتر مباشرة. الأمر المثير أن سارتر وبوفوار توافقا في النهاية مع كوستلر حول شيء واحد: من غير الممكن أن نكون أصدقاء مع شخص يتبنّى وجهات نظر سياسية معارضة.
المتتبع لعلاقة سارتر بأصدقائهِ يجد أنها كانت قوية، على الرغم من التباينات الفكرية، غير أنها أصبحت متوترة ومتصادمة إلى درجة القطيعة على مستوى الخلافات السياسية. على سبيل المثال، عندما اندلعت الحرب في شبه الجزيرة الكورية عام 1949، دعمت الصين والاتحاد السوفيتي، كلتاهما، الشمال الكوري ضد الولايات المتحدة في الجنوب الكوري. بدت العواقب غير محسوبة: هل ستمتد الحرب إلى أوروبا؟ هل سيحتل الروس فرنسا كما فعل الألمان من قبل؟ سأل كامو سارتر عما يظن أن يُفعل به لو اجتاح الروس فرنسا. رد سارتر السؤال على سائلهِ: وماذا سيفعل كامو؟ فأجاب كامو أنه سيفعل ما فعله أثناء الاحتلال الألماني، يقصد أنه سينضم إلى المقاومة. فرد سارتر بورع قائلاً إنه لا يمكنه محاربة البروليتاريا.
وإذا انتقلنا في حديثنا عن الصداقة والسياسة من مستوى الأفراد إلى مستوى الجماعات والدول تصبح العلاقة أكثر تعقيداً وخطورة. في العصور القديمة والوسطى كان البعد الشخصي للحكام هو الذي يحدد علاقات الأمم بعضها ببعض، فيما تغير المشهد في التاريخ الحديث والمعاصر، إذ تخضع العلاقات بين الدول إلى مرجعيات وشرائع قانونية، ومصالح سياسية واقتصادية واجتماعية، ينطبق عليها مقولة ونستون تشرشل:” في عالم السياسة لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة مشتركة”. لكنها المصالح المؤطرة بالرأسمالية الغربية المتوحشة التي تجلب الويلات على الكثير من الدول والشعوب.
وفي العودة إلى سؤالنا، هل بالإمكان إقامة صداقة حقيقية بين السياسيين، والكتاب والمثقفين المنخرطين في السياسة. في تصورنا، الإجابة على هذا السؤال معقدة، لأنها تخضع لاعتبارات عديدة، أهمها القرب والبعد من سلطة الدولة، ومن مطالب الشعب وحقوق المواطنين والطبقات الكادحة والفقيرة. نميل في إجابتنا إلى ما طرحه البير كامو بالإيجاب، ولكن في حدود ضيقة وهشة، عند الحزبيين والمؤدلجين بتعصب، وحدود أرحب وأصلب عند الأصدقاء السياسيين المستقلين أو الغير أسيرين لقيود الإيديولوجيا كعقيدة جامدة.