الخوف من الحرية

0
65

ماذا لو وقعت أمام خيارين الأول: أن تعيش حياة غريزية أشبه بحياة الكائنات الأخرى، كل شيء في تلك الحياة تام ويقيني، طبيعي أنك بهذه الطريقة ستشعر بالراحة والسكينة والأمان. أو الخيار الثاني: أن تعيش حياة إنسانية تعي فيها وجودك في الزمان ويكون تفكيرك فردياً حُرّاً، إلا أنك في المقابل ستشعر بالابتعاد عن الطبيعة وستشعر أيضاً بالقلق والعزلة والوحدة. هذه أولى التناقضات التي عانى منها الإنسان وما يزال، لذا فهو يطمح للحرية وداخله كيان حُرّ غير أنه يخاف منها، حتى وإن أخفى ذلك الخوف من خلال الوقوف ضد السعي نحو التحرر وكَبْت الذات.

عنوان هذا المقال “الخوف من الحرية” مقتبس من كتاب للفيلسوف والباحث الكبير في مدرسة التحليل النفسي “إيريك فروم” الذي ناقش فيه موضوع الخوف من الحرية، حيث رأى أنها حالة تغلب على مجتمعات العصر الحديث المتحضر. قد نظن في الوهلة الأولى أن فروم يقصد نتاج الحرية السيء في نظر المجتمعات المتزمتة، لكنه يقصد إشكالية أخرى أكثر تعقيداً وتعمّقاً في دواخل النفس البشرية ورغباتها، فالخوف من الحرية الذي يعنيه فروم هو الخوف من الوحدة والانعزال، لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

عندما أدرك الإنسان في بداية وعيه فكرة توحده مع العالم بزغ حينها التاريخ الاجتماعي ومعه بدأ يتشكل عند الإنسان مفهوم الوعي بذاته كذات منفصلة عن الطبيعة والناس والكائنات المحيطة به. هذا الوعي البدائي بالذات ظل معتماً ومشوشاً جداً لسنوات طويلة. أدرك الإنسان ذاته منفصلةً عن العالم والطبيعة من جهة، غير أنه ظل مرتبطاً اجتماعياً بالعالم والطبيعة من حوله وهذا ما يسميه فروم “الإصطباغ بالصبغة الفردية” Individuation.

ولم يصل الإنسان لمرحلة نضوج الوعي بالذات وتفردها إلا في عصورنا الحديثة، وهو يشبه الى حدٍ ما مراحل نمو الوعي عند الفرد التي ذكرها غوستاف يونغ والتي تمرّ عبر مراحل مختلفة، يكون الوعي بالذات في مرحلة الطفولة المبكرة شبه منعدم، ثم يبدأ بالبزوغ شيئاً فشيء يكون في البداية ضبابياً ثم في مرحلة الشباب يكون الوعي بالشخصية الفردية واضحاً بشكل أو بآخر. لماذا تسببت الحرية في أزمة على المستوى النفسي عند المجتمعات الحديثة؟

لا يكون الإنسان حراً بما يكفي إلا عندما ينعزل عمّن حوله ليشعر بفردانيته، مع أن هذا الشعور سيعطي الاستقلالية التي يطمح إليها الإنسان إلا أنها في الوقت نفسه قد تتحول إلى شعور بالوحدة ما قد يشكل صعوبات على الإنسان لأنه بالمجمل كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش إلا في وسط جماعة من البشر وهو دائم الحرص على تعزيز قدرات التواصل عنده بشكل أو بآخر. يقول فروم: “إن الطفل يولد عندما لا يصبح متّحداً مع أمه فيكوّن ذاتاً بيولوجية منفصلة عنها. ومع هذا، بينما يكون هذا الانفصال البيولوجي بداية الوجود الإنساني الفردي له، يظل الطفل -وظيفياً- متحداً مع أمه لسنوات طويلة”، والفرد، والحالة هذه، إذاً مازال مرتبطاً بالعالم الخارجي للأم أو المجتمع ولم ينفصل عنه إلا مجازياً، فهو إذن تنقصه الحرية، مع ذلك تشكل هذه الروابط الأمان للفرد مع شغفه بالحرية، فنحن أمام فرضيتين لا تتحقق إحداهما إلا بإلغاء الأخرى وهي إشكالية صعبة حاول فروم في كتابه الذي نناقشه هنا – الخوف من الحرية – تحليلها.

إن الروابط التي تربط الفرد بالمجتمع والعالم من حوله يسميها فروم “الروابط الأولية”. إنها تشكل جزءاً من وعي الإنسان العادي ونقصاً في الفردانية عنده، ويشبهها فروم بالروابط التي تربط الطفل بأمه أو عضو المشاعية البدائية بقبيلته والطبيعة، أو كرجل العصور الوسطى بالكنيسة والطائفة الاجتماعية. وما أن يصل الفرد إلى مرحلة الإصطباغ الكامل بالصبغة الفردية يصبح الفرد – حسب فروم – متحرراً ويحاول جاهداً توجيه نفسه وغرسها في العالم وأن يجد الأمان بطرق أخرى غير تلك الطرق والروابط التي تعود عليها في وجوده السابق على المرحلة الفردية، يشير فروم أيضاً الى أن معنى الحرية السابق على مرحلة التطور الفردية صار مختلفاً عن التصور السابق الذي كان الفرد يتكأ فيه على الروابط الأولية.

مع تقدّم نمو الطفل الجسدي والعصبي تتسارع عملية الإصطباغ بالصبغة الفردية، فيبدأ في محاولات التحرر من قبضة الأم وسلطتها والتي تشكل سلطة عليا بالنسبة للابن ومع تقدمه في العمر يسعى للتخلص من سلطتها التي تعيق تحرره واكتشاف ذاته. وتظهر على الأم جراء ذلك السعي رغبات تتعارض وتتصارع مع رغبات الطفل، يرى فروم من وجهة نظر التحليل النفسي أن هذا التطاحن بين الأم والطفل يحدث بين أنا بما تحمله من منزع فرداني و أنت بغرض الجذب وعدم الانفلات، يقول فروم:” إن الوالدين أو السلطة مهما تكن، لا يعدان ذاتيةً منفصلة أساساً، إنهما جزء من عالم الطفل وهذا العالم لا يزال جزءاً منهما، فإن الخضوع لهما له صفة مختلفة من نوع الخضوع الذي يوجد بمجرد أن يصبح الطرفان منفصلان حقاً”، وهذا الصراع ضارب في عمق الحضارة البشرية، فعندما كانت الأم هي المتسيدة وصاحبة المواهب والإمكانات العظيمة كان الرجل خاضعاً لها يحترمها ويخشاها بل كان يظن أنها من جنس الآلهة، فعبدها على مدى عصور، وحين أدرك الرجل ذاته وفردانيته وأنه جزء في عملية الإخصاب وكل ما يحدث، انقلب على الأم وانتقم منها شرّ انتقام وجعلها تابعة له ونسب لها الرذيلة والخطيئة إلى يومنا هذا.

كلما تقدمت عملية الإصطباغ بالصبغة الفردية تنامى الشعور بالوحدة! -هنا تكمن فكرة الخوف من الحرية- تشكل الروابط الأولية كما ذكرنا الأمان والإتحاد الرئيسي مع العالم خارج النفس، وما أن يبدأ الطفل بإدراك ذلك العالم الخارجي وسعته يزداد وعيه بأنه وحيد وبأنه ذات منفصلة عن كل الآخرين، “هذا الانفصال عن العالم يعد بالمقارنة مع الوجود الفردي قوياً وشديداً بشكل مطلق بل وغالباً ما يكون مهدداً وخطراً ويخلق شعوراً بالعجز والقلق، وطالما أن الإنسان جزء متكامل مع ذلك العالم غير مدرك لإمكانات ومسؤوليات الفعل الفردي فإنه لا مبرر للخوف منه، وعندما يصبح الإنسان فرداً فإنه يقف لوحده ويواجه العالم في كل جوانبه الحافلة بالخطر والمفرطة القوة” (إريك فروم) 

وهروباً من الفردية المخيفة ينغمس الإنسان في العالم الخارجي وينسى أو يتناسى عالمه الداخلي الذي يلح عليه بالاستقلال والتفرد، ولأن عملية الإصطباغ بالصبغة الفردية لا ترتد بشكل عكسي -كما أن الطفل لا يمكن أن يرتد الى رحم أمه – فيفرض الواقع هنا تناقضاً بين طابع الخضوع للروابط الأولية التي نشأ عليها الطفل والتي تشعره بالأمان والإشباع وبين إدراكه اللاشعوري أن هذا الخضوع يقف عائقاً أمام قوة وتكامل نفسه فتدفعه ذاته نحو الحرية. إن “الخضوع يزيد من قلق الطفل ويخلق في الوقت نفسه العداوة والتمرد، ويزداد التمرد ارتعاباً لأنه موجه ضد الأشخاص أنفسهم الذين ظلّ الطفل يعتمد عليهم!” (إريك فروم)

يخرج فروم باقتراح من جدلية الخضوع والحرية اللتان يشكلان قلقاً للشخص مفاده هو “العلاقة التلقائية بين الإنسان والطبيعة” إضافة للعلاقة الفردية بالدين الذي يضفي معنى لوجوده، وهي علاقات تربط الفرد بالعالم دون أن تستأصل فرديته وتخفف من حدّة خوفه من الوحدة وتحدّ من تمرده ضد العالم ومن حوله، وهذا النوع من العلاقات نجد أقصى تعبير عنه في الحب والعمل المنتج وهو نوع من العلاقات خاضع للحدود التي هي مهمة لنمو النفس ورقيّها.