حين التقيتُ نجيب محفوظ

0
18

في خريف عام   2000 التقيت الأديب الروائي الراحل نجيب محفوظ (1911 – 2006). كنت، يومها، في زيارة للقاهرة، وأتاح لي الصديق الدكتور صلاح فضل، وبمساعدة الأديب الراحل جمال الغيطاني، الفرصة للقائه والتعرف عليه فقط، وليس إجراء مقابلة صحفية. ذلك كان شرطاً واضحاً وأساسياً من البداية؛ فهذا وقت الراحة للأديب الذي يجلس مساء كل يوم في مقهى على النيل؛ “عوّامة فرح” مع مجموعة من أصحابه الذين هم حلقة الوصل بينه والعالم الذي انقطع عنه. كان محفوظ حين التقيته على مشارف التسعين من عمره، شيخاً مسناً وواهناً يتكئ على عكازة، ضعيف السمع والبصر والحركة، ويعاني ألماً مستمراً في ذراعه اليسرى جراء محاولة اغتياله عام 1995. 

الروائي الغزير الانتاج أبقى حياته الخاصة سرا ً، وظل يردد: “أنا غير موجود في رواياتي، فلا تتعبوا أنفسكم بالبحث عني وعن أفراد عائلتي. أمي ليست أمينة، وأبي ليس السيد عبد الجواد، وأنا لست كمال عبد الجواد أو غيره من أبطال رواياتي، سواء ففي الثلاثية الشهيرة او غيرها من الروايات”. اجتهد نجيب للحفاظ على حياته وحياة وخصوصية أسرته من اجل إبقاءهم في حال أمن وسلام ربما خشية من أن تصيبهم سهام التجاذب والاتهامات والشكوك التي أحاطت أعماله.

وقد تزوج نجيب سرا، ولم يعلم الناس بزواجه إلا بعد فترة طويلة، ولم يشاهد الناس ابنتيه إلا بعد نوبل عندما ذهبت الابنتان لتسلم الجائزة، كما لم يخرج عنهما أي تصريح للإعلام إلا مرتين، المرة الاولى عندما خرجت ابنته الكبرى أم كلثوم على برنامج تلفزيوني كي تكشف إلى الجماهير سر الخدعة، حيث تلقى نجيب محفوظ قلادة النيل المزيفة.

 وقد ماتت ابنته فاتن عام 2017 ودفنت بسرية، دون أن يعلم حتى أقرب اصدقاء نجيب بالأمر، وثمة “خبرية” جرى تداولها مؤخرا حدثت بين ورثة الأديب وبين أحد كتّاب الدراما، الذي يعتزم تقديم مسلسل عن حياة نجيب، قالت ابنته هدى محفوظ إنها الوحيدة المخوّلة بتقديم سيرة والدها التي كتبها بخط يده، وستقاضي من يقدّم سيرته غيرها. والسؤال هنا هو: هل يملك الأبناء هذا الحق وحدهم، أليس نجيب شخصية عربية وعالمية ملك للجميع؟ ألم تتوزع سيرة نجيب على عدد من الأعمال والمقابلات المرئية والمسموعة والمكتوبة الكثيرة والمتنوعة؟ 

قبل أن يتلقى نجيب محفوظ الطعنة كانت المنابر الدينية تشتم وتكفر وتحرض عليه، الشاب الذي أقدم على طعنه قال: “سمعت أنه كافر من واعظ ديني شهير في أحد جوامع القاهرة ولم اقرأ حرفاً من كتبه”، ويقول أحد السفراء الغربيين لأديب مصري في تعليق على الحدث “لو كان لدينا أديب كنجيب محفوظ لاشتغلنا على إيصاله لنوبل ووضعنا الحراسة المشددة على حياته، لا أن نتركه هكذا عرضة للأخطار، والمعروف أن نجيب رفض الحراسة، إلا أن ترشيحه لنوبل لم يلق قبولا من الرئيسين السادات ومبارك الذين رشحا أدباء اخرين غيره.

وفي المقابلة القصيرة جداً قلت لنجيب “أنا هنا لتسجيل تقديري واعجابي فحسب”، لكنني وجدت صعوبة في الكلام معه بسبب ضعف سمعه، وحذره المعتاد في التعاطي مع الصحافة، لكني رأيته ساحراً وعلى جانب من الظرف والذكاء وحضور البديهة، يقاوم المرض والعجز بالضحك والسخرية وسرد الطرائف.

وقد سألته ثلاثة أسئلة:

وقد أسرّ لي جمال الغيطاني أن اللقاء مع نجيب يجب أن ينتهي حين يقرر أنه يريد تناول العشاء، لأنه يخجل من فعل ذلك امام مرأى من الناس بسبب اعاقة ذراعه، وبالفعل غادرت فورا بإشارة من الغيطاني واعتذر لي نجيب بنفسه قائلا: أنزوي بنفسي عند تناول الطعام.

في لقاءٍ متلفز قبل وفاته ذكَره صديقه الأديب يوسف القعيد، بمقولة سابقة كان نجيب يرددها، “أنا شخت وعمرت وشفت العجب”، وسأله: ماذا تقول اليوم وقد تجاوزت التسعين؟، فأجابه وسط ضحكة مجلجلة: “مش قادر أشوف العجب”.