وأنا أمرّر إصبعي على شاشة الجوّال، كما أفعل عادة بحكم الإدمان الذي جعلتنا عليه هواتفنا (الذكية)، رأيت منشوراً يحوي صورة للمثل الأمريكي جون مالكوفيتش، مغمض العينين، بخلفية سوداء، وجملة بالأصفر الفاقع تؤكد (يقول علم النفس)، تليها جملة أخرى تقول…، لكن قبل الجملة الأخرى.. طرأ ببالي، كيف يمكن أن يقول علم النفس شيئاً؟ من هو علم النفس هذا؟ ليس نظرية، ولا عالما، ولا جزءا منه، إنما علم النفس كلّه يقول.. وليس أي علم نفس، إنه علم النفس متبوعاً بخلفية سوداء ومالكوفيتش مغمض العينين! ونحن نعلم أن مالكوفيتش ممثل يبرع في خلق أرضية نفسية لشخصياته، بحيث يمنح أفعالها وإيماءاتها دلالات عدّة.
حسناً، ربما لابد من الجملة التالية، لأستوعب العنوان الكبير بالأصفر، الجملة الثانية تأتي على ثلاثة أسطر، كتبت بالأبيض، وبخط أصغر من خط العنوان، لكن مع ذلك تم التركيز على بضع كلمات ميّزت بلونها الأصفر، أو بتعريض الخط عندها، تؤكد الجملة: (إذا لم تتحكم في مشاعرك، فسيتم التلاعب بها ضدّك، عليك تدريب عقلك ليكون أقوى من مشاعرك، وإلا ستخسر في كل مرة)! لم أفهم بعد، من الذي سيتلاعب بمشاعري ضدّي؟ وما هذا الفعل المبني للمجهول هنا؟ هذا الفعل المخيف، وما علاقته بصاحبنا علم النفس؟ وما هذا التحذير المرعب من المشاعر؟
الحقيقة، إن كل ما في المنشور، يدلّ على أنه هو نفسه يحاول التحكّم بمشاعري، بدءاً من ظهوره على شاشة جوّالي، وانتهاءً بلونه الأصفر، وإغماضة مالكوفيتش الموحية، والحقيقة كذلك، وبالرغم من حسن الظنّ في المنشور وصانعيه، لكنه مليء بالمغالطات، فلا أظنّ أن من وظائف علم النفس، تقديم النصح لي فيما يتعلّق بمشاعري، ولا أظنّ أن علم النفس مصاب بالرهاب لدرجة وضعه فعلاً مبنياً للمجهول في هذه الجملة، ليخيفني من إظهار مشاعري أو حتى موازنتها مع عقلي، هذا إن كنت أؤمن حقاً بفكرة العقل المحض هذا، أو العقل الفارغ من المشاعر، ففي النهاية لا عقل إلا مع أول المشاعر وهو شعور حبّ الذات أو حبّ البقاء. فالشعور متقدّم دائماً على العقل، مهما بالغنا في إعلائه.
لكني الآن، لا أبحث عمّا يمكن أن يقوله المنشور نفسه، إنما عن فكرة (العلم المطلق) هذه في عصرنا الأجدّ، الحقائق المطلقة التي تُنسب إلى العلم، هنا وهناك، ليس في شيء هيّن مثل الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي المتعددة فحسب، إنما كذلك في الكتب، والبحوث والدراسات، والنظريات العلمية، هذا التناقض الذي نعيشه اليوم ارتكازاً على فكرة السوق والشركات ورؤوس الأموال، تلك التي أدخلت العلم أو الحقائق العلمية، في مجال تنافسها، ولم تعد ترتهن لأي معيار يضمن أو يحقق فكرة الحياد أو الموضوعية. البحوث المختبرية المتعددة والنتائج المؤكدة من أكثر من جهة، والتي تتأكد بهذا التنوع، لم يعد لها قيمة، النزاهة والشفافية في مصادر تمويل هذه البحوث، والأهداف العلمية الخالصة لم يعد لها اعتبار، من هنا بالذات بدأت المشكلة، ولن تنتهي عند منشورنا أعلاه.
إنما ما يمكننا كأفراد في المجتمعات البشرية الاستفادة منه من هذا المنشور هو أنه بالفعل، لا عقل من دون مشاعر، ومهما كان المتحدث أمامك يبدو عقلانياً، وموضوعياً في طرحه، فلا شكّ في أن وراء هذا الطرح ثمة مشاعر، وإن كان من شيء يفصل في شأن عقلانية قول ما، فهو المعايير التي ارتكز عليها، وليس خلّو القول من المشاعر، ففي النهاية، لابد من إدراك الفارق بين شعورين هما غالباً وراء كل فعل، حبّ الذات الذي قد يعني المصلحة الذاتية أو الأنانية الصرفة، وغريزة البقاء التي «إن طبّقت بوعيٍ» فهي تشمل بقاء النوع البشري، وهي غريزة قائمة على التعدد، وبالتأكيد فمن دون هذا التعدّد تنتفي الغريزة نفسها.