الرياضة/ الثقافة/ السياسة
تعود هذا العام منافسات بطولة كأس العالم لكرة القدم من جديد التي تُلعب كل أربع سنوات وجرى تحديث نظام الدول المستضيفة للبطولة لتشمل دول قارة آسيا وأفريقيا بعد أن كانت حصراً على قارة أوروبا وأمريكا، على أن تقام المنافسات كل أربع سنوات في قارة مختلفة ودولة مختلفة يحددها التصويت والقُرعة. جرى تطبيق هذا القرار منذ مونديال 2002 الذي انطلقت منافساته لأول مرة في تاريخ بطولة كأس العالم في دولتين جارتين ومن قارة آسيا تحديداً هما كورية الجنوبية واليابان، توِّج منتخب البرازيل بلقبها بعد أن تغلب في نهائي البطولة على منتخب ألمانيا. هاهي المنافسات تعود من جديد الى قارة آسيا بعد أن غابت 20 عاماً عنها، وبعد أن أكملت دورتها حول القارات تعود هذه المرة بنكهة عربية ولأول مرة في تاريخ البطولة أيضاً يستضيف المونديال بلد عربي وهو البلد الصغير مساحةً دولة قطر.
قد لا يختلف اثنان على أن بطولة كأس العالم لكرة القدم هي البطولة الرياضية الأكثر شعبية والأكثر اثارة للشغف والحماسةً والجدل، والأشد منافسةً حول العالم، تتنافس فيها المنتخبات الرياضية بأسماء دولها وثقافة شعوبها. تسعى الدول الكبرى لأن تفرض هيمنتها على منهم -في نظرها- أقل شأناً ومستوى، وتريد الدول الصغرى أو الفقيرة أن تثور على الدول الكبرى الغنية اقتصادياً والمؤثرة سياسياً لتثبت حضورها، وتسعى لإلحاق الهزيمة بهم رياضياً، ولذلك الأثر الكبير على نفسية شعوبها وحكّامها، وكأنه نصرٌ مظفّر في ساحة المعركة بينما هي منافسة رياضية في حدود المستطيل الأخضر. والدول التي تستضيف المونديال العالمي تصيح محطّ أنظار العالم، فتحاول إظهار أفضل إمكانياتها التنظيمية وإبراز كل مايمثل هويتها الشعبية وثقافتها الحضارية، فالدول المستضيفة تتنافس في مابينها أيضاً.
المتتبع لتاريخ بطولة كأس العالم لكرة القدم منذ انطلاقتها الاولى سيدرك أنها ليست مجرد منافسة في كرة القدم فحسب. هي أيضاً منافسة محتدمة بين الدول المتخاصمة والمتصارعة سياسياً واقتصادياً وجغرافياً؛ فمنذ انطلاق البطولة في الأوروغواي عام 1930 حدثت الكثير من المماحكات السياسية على أرض الملعب. ولعل أشهرها تلك المباراة التي جمعت المنتخب الإنجليزي ونظيره الأرجنتيني في دور ال16 عام 1986 وكانت المكسيك هي الدولة المستضيفة للبطولة. جرت المباراة على وقع عداء شديد بين الدولتين بسبب حرب الفوكلاند حين شنت بريطانيا حرباً على جزر الفوكلاند الملاصقة للأرجنتين في قارة أمريكا الجنوبية، والتي كانت مستعمرة تابعة للتاج البريطاني. تحركت القوات الأرجنتينية واستعادة الإقليم ثم أرسلت بريطانيا تعزيزات من جانبها واندفعت البحرية الملكية البريطانية واستعادت الجزر والإقليم، الأمر الذي أدى الى استسلام مذل للأرجنتين عام 1982. خلّفت هذه الحرب خسائر كبيرة على المستوى الإقتصادي والمعيشي للشعب الأرجنتين ناهيك عن خسائر الأرواح والممتلكات. أثارت هذه الحرب غضب الأرجنتينيين وسخطهم على بريطانيا حتى ظهر هذا جلياً في المباراة التي جمعت البلدين ضمن منافسات كأس العالم.
إذا كانت بريطانيا تمتلك العتاد والقوة العسكرية الضاربة فإن الأرجنتين تمتلك أسطورة كرة القدم الفتى الذهبي “ديغو أرماندو مارادونا”، هكذا كان يردد الجمهور، وهذا ماحدث فعلاً فقد تألق مارادونا تألقاً استثنائياً في كل مباريات ذلك المونديال حتى صارت هذه البطولة تقرن باسمه. سجل مارادونا هدفين في مرمى إنجلترا لن ينساهما جمهور كرة القدم أبداً. الهدف الأول خادع فيه مارادونا الحكم فسجله بيده ملتفاً على قانون اللعبة ومتمرداً عليه وكأنه يقول: إن إنجلترا عندما هاجمت الأرجنتين احتالت على القانون وتجاوزته. والهدف الثاني راوغ فيه مارادونا وحده مجمل لاعبي المنتخب الإنجليزي وانطلق بالكرة شاقاً طريقة من منتصف الملعب مراوغاً ومتجاوزاً كل من يقف أمامه حتى وصل إلى مرمى الخصم وراوغ حارس المرمى الإنجليزي وأحرز هدفاً رائعاً.
ذهل الجمهور لهذا الهدف وللفتى الأسطوري، وكأن الجمهور الأرجنتيني يقول: هاهو ذا الفتى الأسطوري يتجاوز بحريتكم الملكية ويخترقها اختراقاً. مافعله مارادونا في تلك الأمسية من صيف العام 1986 كان إذلالاً لكبرياء المنتخب الإنجليزي وأبّهته، ومع عشق الفريقين لكرة القدم تحوّل النصر الأرجنتيني الى إذلالٍ لبريطانيا نفسها ونصراً معنوياً استثنائياً للأرجنتين!
أتذكر مباراةً أخرى كانت مثاراً للجدل السياسي والشعبي، وأشعلت الكلام والحديث الكثير حولها، هي المباراة التي جمعت منتخب أمريكا وإيران في دور المجموعات في مونديال فرنسا عام 1998، ومن شدة حديث وسائل الإعلام والأخبار اليومية عن اللقاء المرتقب والعداء المحتدم بين البلدين، خرج الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت بِيل كلينتون ليصرح أن المباراة رياضية، ويجب أن لاتحمل أبعاداً سياسية وحث اللاعبين على الإلتزام بالروح الرياضية، وكذلك فعل الرئيس الإيراني خاتمي عندما خرج هو أيضاً متحدثاً لوسائل الإعلام عن تلك المباراة، وهذا بالفعل ما انعكس بدوره على اللاعبين وجرت المباراة بشكلٍ ودّي وشيق، وتصافح اللاعبون وتعانقوا أكثر من مرة طوال مجريات المباراة واستبدل بعضهم القمصان بعد نهاية المباراة دلالة على الصداقة والود. وقد انتهت المباراة بفوز إيران بهدفين مقابل هدف لأمريكا. جرى تصوير هذا الانتصار في الأوساط الشعبية المقهورة والغارقة في التراث على أن الحق -كعادته- قد تغلب على الباطل يوم برز الإيمان كله إلى الشرك كله! وكان ذلك الانتصار أيضاً بمثابة انتصارٍ معنوي للشعوب الإسلامية أو التي تواجه الإمبريالية والمحبة لكرة القدم…
أما الحرب الباردة بين أمريكا والسوفيت فلم يكن لها ذلك الزخم في منافسات كأس العالم لكرة القدم لضعف مستوى الفريقين وعدم اهتمامهما بكرة القدم، كانت المنافسة الرياضية/السياسية بينهما تحتدم في بطولات الألعاب الأولمبية وخصوصاً الألعاب الفردية.
وقفت -كما هو معروف- منافسات كأس العالم لأول مرة منذ انطلاقها بعد انتهاء مونديال عام 1938 الذي أقيم في فرنسا و أحرز لقبها المنتخب الإيطالي لتندلع بعد عامين الحرب العالمية الثانية، وتعود المنافسات مرة أخرى منذ بطولة عام 1950 التي أقيمت في البرازيل من دون مشاركة ألمانيا البلد المعاقب والمستبعد من البطولة. وفاز منتخب الأوروغواي باللقب العالمي على البرازيل في نهائي البطولة.
بعد الدمار الهائل الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية في ألمانيا وعلى جميع المستويات عادت ألمانيا للمشاركة في المنافسات لتخرج من وسط الدمار ومن البؤس والحرب والجوع لتشارك عام 1954 ثم -ويا للعجب- تتغلب على جميع المنتخبات وتفوز باللقب العالمي لأول مرة في تاريخها لتعود بعدها الماكينة الألمانية ذات الجودة العالية للدوران وتشق طريقها في حصد الألقاب دون توقف. أحرزت ألمانيا -إلى حد الآن- لقب بطل كأس العالم أربع مرات. جاءت في أعوام 1954، 1972، 1990، 2014 متعادلة مع إيطاليا في عدد الألقاب ولا تتفوق عليها سوى البرازيل صاحبة الرقم الأكبر -لحد الآن أيضاً- حاملة اللقب خمس مرات.
أحرزت ألمانيا اللقبين الأوليين تحت اسم ألمانيا الغربية، توحدت ألمانيا عام 1990 وهدمت جدارها الفاصل، جدار برلين الذي كان يفصل شرق ألمانيا عن غربها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانشقاق المعسكرين الغربي بقيادة أمريكا والشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي، حيث قسمت ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الى قسم تابع للغرب تديره أمريكا وآخر تابع للشرق يديره الإتحاد السوفيتي، وجرى بناء جدار فاصل بين المعسكرين.
في ذات العام الذي هُدم فيه جدار برلين شاركت ألمانيا لأول مرة باسم ألمانيا الموحدة لتحرز لقبها العالمي الثالث بعدما تغلبت على منتخب الأرجنتين في نهائي مونديال إيطاليا 1990 بهدف مقابل لا شيء. أنهت ألمانيا بذلك حقَبةً كانت الأقسى في تاريخها الحديث، ألمانيا التي لا تعرف الركود أبداً انطلقت وشقت طريقها مجدداً نحو الإزدهار والتطور رغم ماتعرضت له من كوارث مهولة بداية بالنظام الدكتاتوري الشمولي النازي وصولاً للحرب العالمية الطاحنة والتقسيم.
أذكر في الجلسات العائلية على وقع مباريات كأس العالم وأباريق الشاي والمشروبات الغازية، يحدثنا أبي كثيراً عن اللحظات التي ما تزال عالقة في ذهنه من مباريات كأس العالم التي حضرها في صباه، وعن الأجواء التي كانت في ذلك الوقت. في تلك الفترة لم تكن شاشات التلفاز متوفرة مثل اليوم، فكان التجمع لمشاهدة المباريات يجري لعدد كبير وفي مكان محدد مع مجمل أهل المنطقة، فيكون التحدي والحماس بين المشاهدين والعاشقين لكرة القدم عن المنتخدب الذي سيفوز على الآخر.
من الطرائف التي يذكرها أبي جيداً أن مونديال كأس العالم عام 1986 الذي أقيم في المكسيك، وبسبب فارق التوقيت بيننا وبينهم كانت المباريات تقام في وقت متأخر من الليل، وكانت المباراة تستمر حتى الفجر، وكان جدي يحكم إغلاق أبواب المنزل منذ التاسعة مساءً، فلا أحد يخرج أو يدخل بعد ذلك الوقت، وفي إحدى الليالي حين كان والدي العاشق لمارادونا في شبابه لا يريد أن يفوت المباريات التي يلعبها نجمه المفضل، يتسلل للخروج في وقت متأخر من المنزل لمشاهدة المباريات، فأمسك به جدي عند باب المنزل بعد وشاية من أمه، وأرجعه إلى فراشه لينام، إلا أن والدي ظلّ في فراشه حتى الصباح لم ينم. يفكر في مارادونا وهل سجلّ هدفاً أو هل فاتته مراوغة بارعة من الفتى الأسطوري، عندها أخذ والدي تدابيره الخاصة حتى لا يفوت أي مباراة لمارادونا مرة أخرى.
نتمنى أن تكون بطولة كأس العالم هذا العام المقامة حالياً في الدوحة ناجحةً، ونتمنى التوفيق لجميع المنتخبات المشاركة؛ فكأس العالم لكرة القدم ليست مجرد حدث رياضي، وإنما هي حركة رياضية ثقافية تتخللها أحداث تاريخية وسياسية تتأثر وتؤثر في الجو العام، يتجمع حول مبارياتها الأهل والأصدقاء والجيران في مكان واحد وهي فرصة للتعارف وبناء الجسور والصداقات مع الثقافات الأخرى.