تشويه الفلسفة

0
39

ثمة أسئلة قديمة جديدة لازمت تطورنا الثقافي المعاصر، ولم يتوصل المثقفون لإجابات عنها وتولد عنها أسئلة جديدة، وهي أيضا جديدة لأنها فاعلة في الضمير الثقافي الجمعي الذي لم يتوصل حتى الآن لإجابة شافية وأخيرة. 

تذكر الكاتبة فريدة النقاش، أن المفكر الراحل محمود امين العالم كان قد انشغل طويلا بهذه الاسئلة، ورغم تعدده الواسع في الحياة الثقافية، فإنه لم يستطع اقناع غالبية المثقفين في جيله بمركزية هذه الأسئلة، وبأن الإجابات الصحيحة عنها يمكن ان تكون منطلقا لآفاق أرحب، لا في عالم الفكر فقط، ولا في الثقافة عامة، وإنما في حياة المجتمع بكل جوانبها. وعرف مجتمعنا ما اسميه بالعزوف الجماعي عن الانشغال بالأسئلة الكبرى والقضايا العميقة واعتبرها” شغل مثقفين” كما درج القول. 

وبالتدريج حدث انفصال عن المجتمع والفلسفة التي لاذت بقاعات الدرس وبأوساط المثقفين رفيعي الثقافة الذين بذل بعضهم جهودا مضنية لتقريب الفلسفة من الحياة وتبيان الروابط العميقة – والخفية احيانا بينهما، ولكن الانفصال أصبح حقيقة واقعة مع الزمن حتى بدا كأن الفلسفة ليست إلا ترفا أو ربما موضوعا للسفسطة بين المثقفين لا يعني بها الجمهور العام من قريب أو بعيد.

كانت القوى الطبقية المسيطرة في المجتمعات الرأسمالية هي الأعلى صوتا ومقدرة في عملية تشويه الفلسفة، ذلك لأنها تعرف جيداً أن باب الفلسفة لو انفتح بوعي ونزاهة سوف يطلق إمكانات بلا حدود لدى المواطنين الذين لا يعرفون أصلاً انهم يتوفرون على مثل هذه الامكانات. كذلك، فإن هذه القوى التي تملك السلطة والثروة يتملكها الذعر من وعي الجماهير التي تفتح الفلسفة له الأبواب، لأنه هو الوعي الذي كثيراً ما يتحوّل إلى فعالية ثورية تهدف إلى تغيير العالم، وتعرف تاريخيا أن مثل هذا الوعي حين تبلور بصورة موضوعية وعلمية فتح الطريق للتغيير الذي طالما تطلع الية البشر، والمنتجون منهم بخاصة الذين طالما كان عملهم هو رأسمالهم، ولا يملكون غيره، وأخذ يكتشفون مع مضي الزمن وتغيّر الأفكار أن ما يملكونه هو ثمين جدا، وهو عصب قوتهم. وتولدت في هذا السياق نظريات وأفكار ومنظومات كبرى تتطلع جميعا لتغيير العالم، وتغيير العالم هو الشعار والمطلب الذي أطلقه الاشتراكيون وهم يجتهدون لابتكار الأفكار والطرائق التي تفتح الأبواب أمام الطبقة العاملة والفلاحين الذين يشكلون أغلبية السكان. 

ونشط الرجعيون أصحاب المصلحة في استدامة الوضع القائم لتشويه الأفكار والمناضلين الاشتراكيين، وكان السبيل الممهد أمامهم لاجتذاب الجماهير المؤمنة من كل الديانات هو اتهام الاشتراكيين بالإلحاد. وظلّ هذا الاتهام هو عصب المعركة الفكرية التي دارت رحاها ولاتزال بين الاشتراكيين وخصومهم في كل أنحاء العالم تقريبا.

أثبت الفكر الاشتراكي حيوية فائقة، وقدرة على تجديد نفسه في مواجهة الضربات القاسية التي كان على رأس أهدافها فكرة أبدية النظام الرأسمالي العصي على التغيير، وأثبت التاريخ أنه لا شيء يستعصي على التغيير ذاته. لو أخذت أنظمة رأسمالية تتهاوى أمام نضال العاملين رغم الهزائم. ونشط المفكرون والباحثون الاشتراكيون في تقديم رؤى جديدة وأفكار جديدة مستوحاة دائما من المعرفة الوثيقة بأوضاع الكادحين واحتياجاتهم، وتعرضوا في هذا السياق للملاحقة والاضطهاد والتعذيب وصولا إلى القتل في السجون، أي ان الانتصارات والمكاسب التي انتزعها المنتجون والكادحون من القوى المهيمنة لم تكن مجانية، بل دفعت فيها البشرية ولاتزال تدفع ثمنا باهظا.

 ولايزال الطريق مع ذلك طويلاً، فرغم أن الانقسام الطبقي قد تراجع إلى حدٍ، تحت ضغط النضال الباسل للعاملين من أجل حقوقهم، لكنه لايزال موجودا، بل وبفظاظة في بعض الأحيان والمواقع. ويدّلنا تاريخ الفكر الإنساني من أجل القضاء على الظلم والاستغلال على تنوع مدهش في مبادرات البشر وابتكاراتهم الفذة من أجل الوطن الحر والشعب السعيد، وهو ما يؤكد أن مواهب البشر الهائلة لايزال بعضها مطموراً تحت ثقل الظلم والاستغلال. بل ولاتزال القوى الطبقية المهيمنة وهي شديدة الذكاء والحيوية، ولاتزال قادرة على إلحاق الأذى، ولابد في هذا الصدد أن نذكر أن هذه القوى هي نفسها التي أطلقت الاستعمار، لا بالسلاح فقط، وإنما أيضا بالأفكار والمذاهب واستثمار الديانات لكي تبرر استئثارها بالسلطة والثروة. وإذا كانت العلوم قد تقدمت بسرعة مذهلة، فسوف تبقى الفلسفة قادرة على أن تفتح الأبواب والعقول أمام الحلول المنشودة لكل ما تواجهه الإنسانية من مشكلات وآلام. وحين أطلق ماركس صيحته عن بؤس الفلسفة كان ينتقد الانشغال بمجرد تفسير العالم بينما يدعو هو إلى تغييره.

About the author

Author profile

كاتب بحريني وعضو التقدمي