ليس بعيداً أبداً عن الموضوع على الإطلاق، بل في صميمه ولُبِّه، كان سعيد العويناتي شاعراً واعداً وموهوباً بدأ لتوِّه تعليمه الجامعي في بغداد، وكان أيضاً كادراً تنظيميَّاً في جبهة التحرير الوطني البحراني (أعني في مرحلة العمل السياسي السرِّي قبل أن تتحول الجبهة التي تأسست في 15 فبراير 1955 إلى جمعية سياسيَّة معترف بها تعمل اليوم، بعد نضالات السنين وتضحياتها المريرة، بصورة شرعيَّة وعلنيَّة تحمل اسم “المنبر التقدمي” اعتباراً من 14 سبتمبر2001).
وفي أحد أيام سنوات النار والحديد الماضية تلك، وتحديداً في 12 ديسمبر 1976، ألقي القبض على الشاعر/ المناضل سعيد العويناتي (يُقال إن ثمَّة وشاية كانت في الأمر، ويقال إن نسخاً من بعض قصائده قد “ضُبِطَت” مُتَلبِّسة بالحرية في حوزة جندي في الجيش فكان هذا سبباً كافياً للموت، وتقال أشياء أخرى)، وخلال أربع وعشرين ساعة فقط من بدء الاعتقال لم يعد العويناتي بيننا. خلال أربع وعشرين ساعة فقط صار يتحتَّم الحديث عنه بصيغة الماضي. خلال أربع وعشرين ساعة فقط لم يعد سعيد العويناتي موجوداً هنا على الأرض، بل ذهب إلى مكان آخر؛ ذلك “المكان الذي لا يعود منه أحد” وفقاً لشكسبير مرة أخرى.
بعد ذلك دار الحديث وتبودلت التكهُّنات والتوقعات عن مسألة “الأربع وعشرين ساعة” تلك، وعما حدث خلالها؛ إذ لا أحد يعرف على وجه الدِّقة كم بالضبط تمكَّنت روح العويناتي من الحياة في منزل الوحش: مجرد دقائق قليلة قبل انهيال العصي واللكمات؟ ساعة أو بعض ساعة قبل اندلاق الكهرباء في الجسد وتهشيم الجمجمة؟ بضع ساعات في الغيبوبة يمكن أن يكون قد وصل حدها الأقصى في الهول إلى أربع وعشرين؟ لا أحد يعرف على وجه التحديد والدقة، لكن بعد أربع وعشرين ساعة من رؤيته الشمس لآخر مرة كان سعيد العويناتي يرى إلى العالم من تحت التراب.
بعد سنوات طويلة من ذلك كتب الدكتور حسن مدن مستذكراً صديقه ورفيقه سعيد العويناتي ملفتاً الانتباه إلى حقيقةٍ مُفارِقَةٍ بالقول إنه حدث شيء غريب؛ فالمعهود من الأشياء أن يُعتَقَل كادرٌ سياسيٌّ ما، وبعدها يُقاد إلى الغرف المظلمة، ثم تتناقل الألسن ما يتسرب من الأخبار من المعتقَل وأساليب وطرائق التحقيق، ثم يدري الناس عن الحكم الصادر بحق الأسير مهما بلغت قسوته.
لكن في حالة سعيد العويناتي (والكلام للدكتور مدن) حصل العكس تماماً: عرفنا عن استشهاده أولاً، ثم علمنا عن اعتقاله ثانياً.
تكرر الأمر في حالة عبد العزيز الفارسي (مع إن الظروف والحيثيَّات المباشرة مختلفة بعض الشيء من اختلاف السياق، ولكن من الخارج فقط): لقد علمت الغالبية العظمى من مرضى، وأصدقاء، وزملاء، بل وبعض من أهل فقيدنا الحبيب عبد العزيز الفارسي، عن وفاته أولاً قبل أن يعرفوا أنه كان مريضاً في الأساس، وأنه كان مُنَوَّماً في المستشفى تحت رحمة الملائكة. ومثل سعيد العويناتي، لم تمهل الملائكة عبد العزيز الفارسي إلا قليلاً جداً.
وأستحضر هنا أن تاريخ ميلاد عبد العزيز الفارسي يتقاطع مع تاريخ استشهاد سعيد العويناتي في نفس العام بفارق بضعة شهور فقط: الأول ولد في 27 أغسطس 1976، أما الثاني فقد قضى تحت التعذيب في 12 ديسمبر 1976.
هكذا آخى الموت الذي، في العادة، يميِّز الأحياء من الأموات بين سعيد العويناتي وعبد العزيز الفارسي، تاركاً العبرة، والوجد، والوجود في القراءة والكتابة.
هكذا ننتظر حتوفنا في تواريخ الذاكرة والذكريات.