خليل الهاشمي الفنان النابض بالحياة والمفعم بالأمل

0
155

أحياناً يُحار المرء في كتابة ما يجول بخاطره من أفكار وخواطر عن فقدان صديق أو عزيز عليه، حين لا يجد الكلمات أو مضامين المفردات، فتتخلى عنك الكلمات في لحظة أنت في حاجة إليها، فالقلوب مثقلة  والكلمات لا تفي أبداً حق من نكتب عنهم، وخليل الهاشمي واحد من هؤلاء، وكنت محظوظاً بمعرفته.

خليل نجم هوى، ملئ بالنور والحياة، بعد أن المرض نشب فيه بلا هوادة، غيّبه الموت عنا، بكّر في رحيله ومضى بعد ما عانى ما عانى من المرض الفتّاك وكان ذلك من مفاجآت الحياة التي تأتي دونما سابق إنذار، وكان من سوء الطالع أن شاءت الأقدارأن يبتلي خليل بهذا المرض الخبيث، حيث كان مشؤوما اليوم الذي تفاجأ فيه  بمرضه، ومع ذلك امتلك ذلك القدر من الصبر والإرادة والجلد والعزيمة والتحمّل لمقاومته بشجاعة على الرغم من أن عقله كان مثقل طوال هذه السنيين بشتّى أنواع القلق والخوف، ومع ذلك  لم نسمعه يلعن الحياة على هذا الظلم القاسي الذي سُلّط عليه وظلّ مواصلاً إبداعه، متفائلًا ممتلئاً ثقة بالنفس حتى آخر يوم في حياته. قاسية هي الحياة لكنها الأقدار وما علينا الاّ أن نعطي معنى لحياتنا ونتحمل الأوجاع التي تنزل علينا بقسوة وهذا ما فعله أبو رامي في مجالدة المرض.

رحل عنا وفي قلب كل من عرفه غصة ولوعة على إنسان قدّم جلّ معارفه الفنية والمعرفية لوطنه بعد تخرجه من  لينينغراد (سان بطرسبورغ) بالاتحاد السوفيتي، فهو فنان مبدع، وطني بلا منازع، خلوق وبسيط ومتواضع بلا تكلف، رقيق وشفاف إلى أبعد الحدود، إنسان يفيض إنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ. هادىء ومتزن ورزين ورصين، يحمل قلباً نقياً أبيض كالأطفال، طيب المعشر، نقي وجميل وبارع في خلق صداقات حميمة مع الجميع، وبذلك حاز على أعلى مراتب الحب ممن عرفوه أو عاشروه، سواء عندما كان طالباً في أحضان الحياة الجامعية وأثناء عمله في سلك التدريس بعد التخرج. إنسان وفنان نادر جسّد فكرة  أن الفن يطّهر الروح ويمنح الذاكرة فسحة من الخيال والفرح. لا يشكو ولا يتذمر، يعمل بصمت وبحب بكل جوارحه ويتسامى على الخلافات المذهبية والطائفية مترفعاً عنها، مشحون بحبه لوطنه وشعبه، مبدئي صارم شأنه شأن القديسين. له قلب طفل ونباهة شاب وصبر رجل حكيم.

زرته في مرسمه عدة مرات، وفي كل مره أراه الأجمل والأنقى روحاً وخلقاً وبساطة، يقابلك بابتسامة ويودعك بمثلها رغم ثقل ما بات يعانيه من المرض وإحساس بأن الموت يحوم فوقه كتهديد مستمر. كنت أقرأ في عيونه ما قاله جاكومو كازانوڤا: “كُلّما كان وضعي الصّحي جيداً، لا أقومُ بأي شيء آخر أبداً، سوى العمل لدرجة الإنهاك، وكُلما خانني جسدي علىّ أن أعمل لأستعيد عافيتي”. هو ذا خليل مفعم بالحيوية والنشاط، منهمك في عمله لا يسكنه الأمان الا بعد أن ينجز عمله وبكلّ حرفيّة، لا يترك  لنفسه فرصة  للراحة، فالعمل لديه كالعبادة تقرب له الحلم الذي كان يعمل عليه بكدّ ومثابرة وهو طالب  النحت فأبدع أيما إبداع وصار إسمه معروفاً في البحرين وخارجها، وقدّم أعمالًا إبداعية ضاهت العالمية وحصل عنها على الجوائز، فجعل من شعوره بثقل المرض بصيص أمل استغرقه في العمل على مشاريعه الفنية لمعرفته أن الفن يبقى حتى عندما يرحل مبدعوه، فكان الفن رهانه الكبير لزرع الكثير من المحبة بين الناس، يلاحق الزمن بالأمل والإيمان بمقدرته على فعل المستحيل لوقف السرطان من التمدد في جسده، فكان يستعجل الإنجاز بكل ما أوتي من قوة فكانت أعماله الفنية النحتية مرآته الحية والناطقة.

جمعته علاقات واسعة مع الفنانيين والخطاطين والرسامين، فكانت له صحبة مع الكثيرين ومنهم الخطاط المحترف المرحوم عبد الإله محمد العرب وهو ما زاده  معرفة بكل ألوان الفنون الأخرى، ما زاده إيماناً بمقدرته على خلق الجديد في عالم الفن الواسع والمتنوع وتجاوز المألوف منه.

كان على يقين بأن الدنيا حكمتها في إنها قصيرة ولحظات الفرح فيها عابرة. لهذا عندما تأتي فمن العبث تضييعها فكان يقتنص اللحظات التي لا ينغص عليه فيها شيء، فيحّلق عالياً في الفضاءآت غير عابئ بما يأتي من قادم الأيام. حقق خليل الهاشمي الكثير من أحلامه كمبدع، ولكن أحلامه كبيرة تفوق ما أنجزه وأفكاره تتدفق كتدفق مياه النهر ولكن الإمكانيات لم تتوفر له، وبالخصوص بعد غلق المرسم في مدرسة المنامة الثانويه الصناعية.

وقع خبر رحيل أبي رامي عن دنيانا شديد الوطأ على أهله وأصدقائه ورفاقه، أغمض عينيه، تدحرج في غيمة قادته نحو صفاء اللحظة. ترك المنحوتة التي كان يعمل عليها دون أن يُكملها تقود رحلته إلى الخلود وسط الصمت الذي سكن وجوه عائلته ورحل بهدوء دون ضجيج.

يا لها من خسارة فادحة للوطن برحيل هذا الإنسان المبدع الذي ترك بصماته في ذاكرة البحرين في الزمان والمكان من خلال فنه الجميل لتنهل من هذا الإرث الأبداعي الفني الأجيال القادمة جيلاً تلو آخر.

لك منا يا أبا رامي كل الحب، ستبقى دوماً وأبدًا في قلوب محبيك وعشاق فنك نجماً ساطعاً لا يغيب، وستظلّ أعمالك الفنية قصيدة للحياة وتمجيداً للنور والمحبة، بمنحوتاتك زرعت دفئاً ملوّناً في قلب الوطن، نفخر ونعتز بما قدمت وستبقى أعمالك مضيئة في وجدان وذاكرة الوطن والناس.