شكري سرحان مجدداً.. وآخرون

0
83

كتبت قبل أعوام مادة عن الممثل المصري الراحل شكري سرحان، وعنونتها بـ”الحظ الضاحك في حياة شكري سرحان”، استعرضت فيها رأيي في أدائه المتواضع، مقارنة بعدد ونوعية الأفلام التي مثّلها، والتي جاء معظمها في قائمة أفضل/ أهم مئة فيلم مصري، وحقيقة كان هذا منطقياً. حسناً؛ ربما كانت تلك مادة بمنطق “التطهير” الذي وددت مشاركة أفكاره مع الآخرين، وقد حصل بالفعل مع ردود الأفعال المتباينة؛ من مؤيد شديد، إلى معارض شديد أيضاً. فتح الموضوع أيضاً سؤال المحاكمة، حيث عاتبتني أختي بمنطق: هل انتهت أخطاء الأحياء حتى يتم النبش في قبور أموات؟

كلّما ظهر شكري سرحان على الشاشة في أفلام مهمة لا زالت تعرض وتشاهد بكثافة في القنوات المتخصصة، ساءلت نفسي: لِمَ هو تحديداً؟ وبقليل من النبش عن معاصريه من ممثلين، وخلطة نجاح أفلامه، ستظهر النتائج أن الكتابة هي الأساس الأولي في نجاح مجموع الأعمال الدرامية التي قام بها، بالإضافة إلى أسباب يمكن الرجوع إليها في تلك المادة.

ورغم إقراري الشخصي بأنّي لم أعزل ذائقتي الشخصية عن تقييمه كفنان، وكانت المحرك للنبش والكتابة، لكنني – بأمانة النقد – أتجنب المزج بين هذا الجانب وبين التحليل كما يجب أن يكون عليه، وليس سرحان إلا نموذجاً يمكن أن ينطبق على كثر من قبله، ومن بعده. لكن، بما أن أي شخص يقع تحت دائرة الضوء هو معرض بالضرورة للتحليل والنقد، وحتى التنمر بأسماء متخفية في وقت حرية الكتابة، دون التعرض للمساءلة في وسائل التواصل الحديثة، يفتتح الحديث ويعيده إلى الصدارة مرة أخرى – وربما بشكل أنضج من قبل -، المعايير التي تعطى لأي أحد يقع تحت دائرة الضوء، ويحسب تلقائياً بأنه فنان قدير، وهنا يكمن السؤال: على ماذا يعتمد معيار التقدير هنا؟ سواء كان ممثلاً، أو مخرجاً، أو كاتباً، أو ناقداً، أو حتى إدارياً في مقر مسرحي ما!

وحتى نعود إلى أصل التقدير؛ نجد أن الربط في هذا اللقب وجود صاحبه في هذا المجال من وقت طويل، أو كما عبرت الفنانة الراحلة أمينة رزق بأن عنونة اسم الممثل هكذا تكون حينما يتراجع عن أدوار البطل الأول، وبالتالي يكون في أدوار مهمة أخرى؛ كالأم، والأب، والجدة، والجد، فلا يعود اسمه يكتب في المقدمة، حتى قبل كتابة عنوان العمل نفسه، فيكون التقدير مثل جبر الخاطر، وتعويضاً عن التراجع في الدور، لكنه تثمين لرحلة عطاء ممتدة، على النحو الذي يرضي الممثل وجهة الإنتاج وباقي الطاقم. من جهة أخرى، يرتبط “القدير/ة” أحياناً بطول مدة البقاء في المكان، خصوصاً تلك المرتبطة بعضويات، من دون إقران هذا بالأعمال أو بأي إنجاز يخصّ الوسط الذي ينتمي إليه سينمائي، أو مسرحي، أو غيره، وكأنَّ المسألة مرتبطة بالفرصة التي جعلته عضواً بدون أي شرط آخر. وهكذا تأتي الصدف بالكثير من الأعضاء الذين قدموا مع أخ، أو صديق، ليتحول أحدهم مع الوقت إلى قدير، هكذا وببساطة، كما جرى تكريم أحد الذين رحلوا قبل سنوات، وهو عضو في مسرح ما بدولة مجاورة، وحينما صار الهمس حول منجزه، لم تظهر النتائج إلا أنه شقيق فنان معروف فقط.

ولنا هنا التفاتة، خصوصاً في المهرجانات المعتاد إقامتها سنوياً في توقيت محدد، حيث جرت العادة على التكريم كجزء من بروتوكول الاحتفالية. وحين تكون الفعالية المقامة في أولى دوراتها، تبدأ بتكريم من يتفق أنهم الأجدر، وغالباً ما يكونون معروفين في الوسط الذي يكرمون فيه، واستحقوه بشكل ما. لكن دورة بعد أخرى، ستكون الأسماء الفاعلة الأساسية قد نفدت. ولأن التكريم صار جزءاً من الاحتفالية، ولا يمكن تجاوزه – حسب مفهومهم -، فيأتي الدور تلقائياً على غير المستحقين، إلا بعد زمن من العطاء الحقيقي، وليس بتاريخ العضوية أو الانضمام إلى المؤسسة الثقافية/ الفنية/ المسرحية المعنية.

وهذه إشكالية كبيرة، تشبه إشكالية منح جائزة في مسابقة لأفضل “السيء”، بحجج وأعذار واهية – خاصة تلك المرتبطة بجوائز مالية – حيث يرى الحكّام صعوبة أن يرجع المبلغ إلى خزينة المانح، ويفضلون إعطاءها لأفضل الموجود، ظناً منهم أنها خسارة! لكن الخسارة الحقيقية هي في المستقبل القريب جداً؛ لأنه، بعيداً عن حسابات المال والمعارف والمردود المعنوي للطرفين – كما الاستفادة -، سيتعين على هذه اللجنة تحمل عبء مفاخرة متوسط أو عديم موهبة في الأوساط الفنية لحصوله على جائزة لا يدقق كثيرون في معايير إعطائها له! تظل هذه الشهادة هي العلامة التي يسوق بها الفائز نفسه في مناسبات أخرى، ويراكم عليها. فماذا فعلت اللجنة؟ صنعت تاريخاً مزيفاً لعديم أو متوسط موهبة، وهلُمّ جرّاً على كل ما حالة شبيهة. فالصدف، وصناعة الحظ، والمعارف، وقليل من الرأفة، تخلف للمجتمع كائنات موهومة بالنجاح، لا تقبل النقاش.

هذه العملية هي جزء مما أوردتُ معناه في مادة شكري سرحان، ليس تضحيلاً لتجربته التي تحترم على أية حال، ولها جمهورها بالتأكيد، لكن بقصد إعطاء نموذج لكيفية الصعود، وخدمة الحظ والقدر، والاستمرارية فيه، دون أن يعترض أحد ويقول إن الواسطة قد توجد فرصة، ولكنها لا تستمر، في حين أنها تستمر، والأمثلة كثيرة، أشهرها الآن تمويل دراما الممثلين متواضعي القدرات مع منتجين مستفيدين بأي شكل من الأشكال مع هؤلاء النجوم الذين صعدوا خلسة، بسبب مفهوم “الترند” الحالي الذي قد يأتي بأي مشهور لأي سبب، ويقحمه في الدراما بذريعة أن الناس تحب مشاهدته، متناسين بأن هناك صورة سلبية تصدر دونما وعي لجمهور عريض ومتنوع، أبسطها: أن الصعود والظهور والشهرة سهلة، حتى لو أتت عبر فضيحة وسوء خلق.

لذا فإن التقدير ينبع من الجودة؛ تجويد العمل، والاشتغال عليه بمهارة متفوقة، بحيث يستحق التميز. فلو كان كل المشتغلين في الفن متميزين على خط واحد، لما شاهدنا مطرباً واحداً وكورالاً كبيراً وراءه، أو ممثلة رئيسية ومجاميع كومبارس صامتين، أو بالكاد ناطقين بجمل محدودة – وقد يكونون من أصحاب المواهب المتميزة -، وليس اعتراضاً على شخص بذاته.

لكن أليس من الوارد جداً، وأكيداً، أن يأخذ هذا الشخص محل آخرين يستحقون ما هو فيه، وعليه؟ وتشير بعض الكتابات حول بعض الممثلين “السنيدين”، ومن يصغرهم من أدوار حول البطل الأوحد، سواء عبر مواد صحفية، أو دراسات صغيرة، أو حتى كتب سير، تبين أن لدى الجميع مسيرة تستحق أن تروى؛ من تضحيات، وصعود وهبوط، ونجاح وإخفاق، ثم في أحيان غير قليلة نهاية غير سعيدة. ربما حلم كثير منهم بنفس تلك المكانة التي أخذها سرحان أو غيره، ويمكن أن تكون الصدف والظروف ساعدتهم، وليس من منطلق موهبة أصيلة.

والاستسهال في إطلاق الألقاب على الممثلين، ومن هم على ذات الخط، من مخرجين، وكتاب، ونقاد، وسينوغراف، وكوريغراف، وغيرهم الكثير، يساعد في استفحال هذه الآفة، وتخرج إلى السطح “أنات” متضخمة يصعب إرجاعها إلى حجمها الطبيعي بعد وقت، في حين أن “الأنا” أصلاً عالية في هذه الأوساط، واتهامات التجهيل أبسط ما يمكن أن يقال لأي أحد، من أي أحد أيضاً! الفن هو نتاج العقل المتفتح الحر. لذا لا يجتمع الفن مع الجمود، ولا يزدهر في فكر جامد مسجون في دائرة مغلقة.

وبالتالي، فإن صيغة “القدير” تقع على من قضوا باعاً طويلاً في مجالهم، وإتقانه. فالمجال وإتقانه متلازمتان، لا يجب تجزئتهما، وكل مرة ينجز فيها المرء في مجال تخصصه يجب أن يكون على درجة لا تقل عن آخر مرة أنجز فيها، وإلا سيكون هذا تكراراً لا جدوى منه، وغير واضح، لأنه لم يضع علامة، ولا توجد بصمة. ولنضع على خط المقارنة -برغم اختلاف الزمن والوقت والظروف وقوة الأضواء المسلطة- مثالنا حول شكري سرحان، الذي قدّم للسينما فقط ما يقارب المائة والخمسين فيلماً، وبين الممثل المصري الراحل خالد صالح الذي قدّم اثنين وثلاثين فيلماً فقط طول مشواره الفني القصير، وكيف أنها علامات فنيّة حقيقية، لا يمكن أن تمر دون تمييز من أقل المشاهدين ملاحظة! وأعيد تكرار أن ذكر هذين الاسمين هو من باب الإشارة إلى نماذج متكررة كثيرة في الوسط الفني عموماً.

في الماضي، كانت الخطوات تأتي صعبة، وبطيئة، بسبب طبيعة الوقت وقلة الفرص، والشهرة تأخذ وقتها، لأن حفظ أسماء الممثلين لا بد أن يأخذ وقته مع التكرار والنجاح واللمعان. ومع الكثرة الوافرة في الأعمال والأسماء والصياغات، يلمح المشاهد، المتابع بذكاء، خط سير الممثل عبر المقارنة المحمودة بين عمل وآخر، بحيث يتأكد أن الشخصية الدرامية التي يظهر بها هي ليست شخصيته في الواقع. والأكثر من هذا، أن نفس هذا المشاهد يعي “منهجية العمل” لدى هذا المخرج أو ذاك، فيبدأ في رصد العمل ككل، وتفكيكه، وفهم سياقاته المختلفة، حتى ولو كان يشاهد عملين منفصلين لنفس المخرج، أو أي ممثل. والواقع أن بعض قراءات المشاهدين المسجلة، إلكترونياً أو ورقياً، مدهشة في تحليلها، وأحياناً تكون أفضل من بعض النقاد المتخصصين.

والناتج عن كل هذا التتبع والتفحص: اكتشاف عدد كبير من نماذج شكري سرحان ونقيضه، الذي قضى عمره سعياً، ولم يحالفه الحظ أو الاجتهاد في أن يبرز ويتميز مثله، وأيضاً لم يظهر من النقّاد أو الكتّاب من يقيّم هذه التجارب في ذاك الوقت، لينير بالشكل الصحيح الذي يسمح أو يساهم في أن يظهر العمل بشكل أفضل مما هو عليه في الواقع. وهذا يحتاج إلى أقلام محايدة، لا تشخصن، ولا تنظر إلى التجربة الفردية على أنها الكل، ولا تضع اعتبارات أخرى غير العمل الفني، وأن لا مقدسات مقلقة هنا للمناقشة والتحليل وإبداء الرأي المتزن، وأن من سيقرأ التجربة مستقبلاً لن يشعر بالعدل المطلق في مسائل الحكم على العمل الفني، ولكن بالتأكيد سيكون للنقد والكتابة أثر جيد في التقويم و”التقدير”.