الأب الأول

0
69

يقول ابن المقفع إنا: “وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساماً و أوفر مع أجسامهم أحلاماً، وأشد قوة، وأحسن بقوتهم للأمور إتقاناً، و أطول أعماراً، و أفضل بأعمارهم للأشياء اختباراً” (الأدب الكبير ص63)

يقترح ابن المقفع نوعين من العقل: العقل الذاتي والعقل الصنيع، ويفرق بينهما عبر المقارنة بين الأرض الطيبة والأرض الخراب لكنه لا يذهب أبعد من هذا الوصف المقتضب. يشير عبدالله الغذّامي في كتاب “النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، الى أن المتتبع لكتابات ابن المقفع سيجد العقل الصنيع وحده ولن يجد العقل الذاتي  الحُر المنتِج للمعرفة. ذلك لأن ابن المقفع يرى أن أسلافنا الأوائل قد كفونا مؤونة التجارب والتفكّر، وأننا معشر المتأخرين كل مانحتاجه هو أن نحفظ عن الأوائل حكمتهم التي سيتولى ابن المقففع تحفيظنا إياها، وهذا هو العقل الصنيع الذي سيمتدحه ابن المقفع ويعليه على حساب العقل الذاتي الذي سيختفي تدريجياً. ولأن الأوائل يحبون الخير لنا لم يخفوا الفضائل العقلية التي أحرزوها عنا فهم مازالوا يتفضلون بشيء منها علينا، يقول ابن المقفع:”وجدناهم لم يرضو بما فازوا به من الفضل الذي قسم لأنفسهم حتى أشركونا معهم في ما أدركوا من علم الأولى والآخرة فكتبوا به الكتب الباقية، وكفونا به مؤونة التجارب والفطن” (الأدب الكبير ص64)، وأما نحن فـ”منتهى علم عالِمِنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم…ولم نجدهم غادروا شيئاً يجد واصف بليغ في وصفه لم يسبقوه إليه” (الأدب الكبير ص65).

ويذكر الغذّامي في ذات الكتاب أن هذه المقولات ليست شاذة أو شخصية، إنها مقولات تمثل عمق النسق الثقافي العام، كانت هذه الأنساق سائدة في الشِعر والأدب والبلاغة، ومنها جاء اختراع الشاعر الفحل وهو أخطر المخترعات الثقافية لأنه جاء على أساس طبقي “طبقة فحول الشعراء”، وجعل مصطلح الطبقات للشعراء حصانة “ثقافية وسياسية من حيث ارتباطهم بالسلطان حتى إن شاعر السلطان سيكون أمير الشعراء” (النقد الثقافي ص132). وعلى إثره صار للألفاظ طبقات والمعاني صارت طبقات فيها الألفاظ الشريفة والأصيلة والأدنى، وحتى الرواة طبقات بل حتى الشحاذة طبقات فيهم من لايأخذ الأعطيات إلا من أصحاب الجاه والوجهاء. وقد ارتبطت الطبقة بعنصرين متلازمين هما عنصر الفحولة وعنصر الأقدمية، “الطبقة الأرقى هي الأقدم وهي الأفحل، وهذا حسم الأمر منذ وقت مبكر ضد الحاضر والستقبل، وضد الآخر الضعيف والشعبي وغير الشعرري والؤنث” (النقد الثقافي ص132).

وبما أن الأوائل  -كما مر بنا- أضخم أجساماً وأرجح عقولاً فهم بالضرورة النسقية أعلم وأكثر حكمة. “هذا تصور نسقي متجذر حتى لنجد المثل الشعبي الذي يقول: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة، فالأكبر هو الأعلم. ولما تعرَّف أسلافنا على أرسطو وصفوه بالمعلم الأول وليس لمن يأتي بعده من مطمع إلا أن يكون المعلم الثاني بعد أن تخصص الأقدم بالأفضلية الطبقية المحسومة”  (النقد الثقافي ص133).

في سلّم الطبقات عند العرب تأتي القبيلة في موقع أسمى من المدينة، وشعراء البادية أرقى من شعراء القرى والمدن، تتجذر القبيلة وتنغرس أكثر في لاوعي العربي، فيحتل الجذر القبَلي موقعاً مهماً حتى يومنا هذا، ومن هذا المفعول النسقي المتأصل نجد عبارات من قبيل (فلان ابن أصول) و(فلان لا أصل له). حتى أن ابن عربي وهو ابن بيئته وزمانه يصف الحروف على أنها قبائل وطبقات ولذا تتفاضل ويتشرف بعضها عن بعض.

يقارب الدكتور علي الوردي تلك الظاهرة من منظور اجتماعي ويرى أن الشاعر العربي المتمدن حمل معه الكثير من التقاليد الجاهلية ذلك لأن العربي قد احتفظ بكثير من قيم البداوة بالرغم من تحضره، يقول الوردي:” من مشاكل المجتمع العربي بشكل عام أنه ذو شخصية مزدوجة، فهو حضري وبدوي في آن واحد. ومرد ذلك الى متاخمته للصحراء واتصاله بها. فالبادية إذن تمده بالقيم البدوية جيلاً بعد جيل. وكلما حاول المجتمع أن يستكمل تحضره جاءته موجة بدوية جديدة فعرقلت محاولته قليلاً أو كثيراً. ولهذا صار الشعر العربي مزدوج الشخصية مثل مجتمعه.” (أسطورة الأدب الرفيع ص102)

ومن أشد القيم التي تجذرت عند العربي وتمسكوا بها هي القيمة العليا للأب الأول القبَلي العليم والمتسّيد، وبذلك “يتعزز إذن مفهوم الأول بوصفه الأب الأصل القبَلي والمعلم والأكمل، لذلك يجري القياس عليه والتسليم بمعطياته وهذا سبب العودة الى النموذج الجاهلي مع مطلع العهد الأموي لأنه النمط الأبوي القبَلي، ويكون ديوان العرب هو السجل لهذه الأصول النسقية. ولقد ارتبط مصلح (الأوائل) في الكتابات العربية بمعنى (الطبع) والعمود، عمود الثقافة، بوصف ذلك علامة على الأصالة والفحولة، والطبع والعمود يعنيان تحديداً النموذج الجاهلي بخصائصه الفنية وما يتضمنه من قيم قبَلية شعرية” (النقد الثقافي ص134)

في النقد الأدبي المعتاد الذي ألفناه ينصب النقد على البلاغة والجماليات ومدى جودة الوصف،  هذا النوع من النقد يكتفي بنقد السطح دون التعمق في الأنساق التي يحملها النص والتي قد تؤدي الى تأصيل مفاهيم وأنماط عامة قد تسربت للذات العربية الثقافية ومنظومة السلوك الإجتماعي العربي. وحين تمر تلك الأنساق الثقافية التي تحملها النصوص الشعرية بين دفتيها بدون نقد فعالٍ يُذكر تتضخم الأنا، فيتملك الشاعر مثلاً أو البلاغي أو الفقيه أو غيرهم صفات متعالية، منزّهة عن النقد وبعيدة عن العيوب ويكون النقد فيها تبريرياً. لقد تحول هذا النسق مع مرور الأيام الى صنمٍ صنعته الثقافة السائدة بنفسها وعكفت على تبجيله، هذا بدوره قد أدى الى نتائج خطيرة، وقد أسهم إسهاماً فعّالاً في خلق وتصنيع شخصية الطاغية، صار النسق بمثابة تبرير أخلاقي لأي سلوك أناني متجبّر، لا يرى أي اعتبار للآخر، وسيلته مع الخصم المختلف واحدة لابديل لها، السحق والإلغاء.