يمر المجلس النيابي بمرحلة من تراجع في صلاحياته. أحد الأسباب هي القيود التي تفرضها اللائحة الداخلية، فضلا عن قانون الانتخابات وتوزيع الدوائر الانتخابية ووجود مجلس الشورى في صيغته الحالية. كل ذلك يؤدي إلى اضعاف السلطة التشريعية، وبالتالي ارتفاع مستوى الاحباط في المجتمع ومطالبة البعض بحل مجلس النواب.
في هذا المقام لا بد أن نذكر بان سلامة الدولة وقوتها وقدرتها على التعامل مع متطلبات توفير الحياة الكريمة لمجتمعها وحسن استغلال مواردها يعتمد على كفاءة وفاعلية المؤسسات، وسلامة السياسات وجودة التنفيذ وشمولية التقييم والمتابعة. لا يتم ذلك إلا إذا تحقق مستوى عال من التوازن بين قوة وقدرة مؤسسات الدولة واجهزتها، وقوة المجتمع ومنظماته وتنافسية السوق (قطاع أعمال خاص وعام) وانضباطه وحسن توجيهه.
هذا يعني أن مؤسسات الدولة بحاجة إلى المساءلة والمحاسبة على النتائج لرفع كفاءتها وتتمكن من حسن استغلال الموارد ورفع مستوى الأداء في بيئة تتسم بالنزاهة والشفافية والالتزام بمبادئ الحوكمة الرشيدة. والسوق بحاجة إلى رقابة المجتمع والدولة لتحسين ادائه والحد من الاحتكار والاستغلال، والمجتمع بحاجة الى الدولة لفرض عدالة القانون لحفظ امنه وحقوقه وحماية ضعفائه.
تحقيق التوازن المؤدي إلى المحاسبة والمساءلة يحتاج إلى مجتمع حيوي مشارك بفاعلية، ممثل بمجلس نواب يعبر عن تطلعاته وتوقعاته للمستقبل، قادر على تأدية مهامه الرقابية والتشريعية ومتمكن منها. يحتاج إلى مجتمع منظم في جمعيات (أحزاب) سياسية ومنظمات مجتمع مدني قادرة على تقويم أداء السلطات الثلاث والوقوف بحزم تجاه أي تجاوزات أو سوء أداء. كما يحتاج التوازن إلى قطاع أعمال يمتلك قدرات تمكنه من اقتناص الفرص الاستثمارية وخلق قيمة مضافة وتوفير فرص عمل مجزية لمواطنيها في بيئة عمل محفزة وضامنة لحقوق الملكية المادية والفكرية ضمن سيادة القانون وتكافؤ الفرص، وخاضع لمراقبة المجتمع والدولة.
هذا التفاعل الثلاثي بين الدولة والمجتمع والسوق كان الحاكم في تطور الدول وتقدمها وقيام الامبراطوريات وافولها، وهو كفيل برفع قدرات مؤسسات الدولة والتزامها بجودة الأداء وبالنزاهة والشفافية وحقوق الانسان وحسن ادارة المال العام، وكفيل بتمكين المجتمع من الرقابة والمساءلة. كما يخلق هذا التوازن منظومة متكاملة ترتفع قدراتها من خلال التفاعل والتاثير المتبادل بين مكوّناتها الثلاث.
هذه الرؤية عززها الميثاق الوطني بتركيزه على أهم القيم الأساسية التي ينبغي أن تحكم المجتمع والدولة والسوق ليتحقق التوازن الايجابي. وقد اكد ميثاق المل الوطني على قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتجمع وأسس لحماية المال العام وحرمته، وأوكل لهم مسؤولية تحقيق هذه الرؤية واحترام القيم والمبادئ التي قام عليها. فإلى أي حد نجحنا؟
انطلقت التجربة الديمقراطية بوضع دستور ليترجم مبادئ وقيم الميثاق، وبدأت الحياة البرلمانية في 2002 بانتخاب مجلس نواب وتعيين مجلس شورى، وصدر قانون الجمعيات السياسية لينظم عملها واتسع المجال لتكوين منظمات مجتمع مدني مهنية ونقابية وحقوقية وسياسية، معلنة بذلك مرحلة جديدة من تاريخ البحرين السياسي اتسم بحيوية المجتمع وتفاؤله في المشاركة السياسية.
بدأ مجلس النواب بداية فاعلة نسبيا وحقق مكاسب وانجازات، غير ان ذلك لم يستمر لعدة اسباب اهمها أحداث سنة 2011. بعدها بدأت سلسلة من التراجعات في صلاحيات المجلس النيابي منها قيام السلطة التنفيذية بإحداث تعديلات على اللائحة الداخلية لمجلس النواب وتقييد الاستجواب بجعل تمريره يحتاج إلى ثلثي الاعضاء، ومؤخراً تقييد المناقشة العامة، والآن هناك مرسوم بقانون رقم 38 لسنة 2022 يزيد من هذه القيود. بالاضافة إلى ذلك، وُضعت على الجمعيات السياسية شروط مثل ربط استحقاق الدعم بوصول أحد مرشحيها إلى المجلس النيابي مما اضطر بعض الجمعيات السياسية إلى حل نفسها، وأخرى توقف نشاطها وبقيت أسماء دون فاعلية تذكر، واقتصر الامر على عدد محدود من الجمعيات السياسية تحاول أن تؤثر في الحياة السياسية وتمثل مصالح المجتمع.
أثر هذا الضعف في نظرة المجتمع إلى الجمعيات السياسية وتعرض بعضها إلى حملات تشويه وفضل المجتمع انتخاب المستقلين لمجلس النواب بالرغم من علمه بأن العمل السياسي هو عمل جماعي مؤسسي. أدى كل ذلك إلى تراجع دور الصحافة المحلية في القدرة على النقد والتحليل والقيام بدور استقصائي مؤثر في التعامل مع شبهات الفساد والتجاوزات وسوء الاداء.
اضعفت هذه الاجراءات مؤسسات ومنظمات المجتمع، انعكس هذا الضعف على حيوية المجتمع وجعلته قليل الفاعلية في التاثير في السياسة العامة للدولة. كما اثر هذا الضعف سلبا في اداء السلطة التنفيذية بعد ان فقدت عنصر النقد والمساءلة والمحاسبة التي هي اهم عوامل تحفيز الاصلاح والتقدم والالتزام بالنزاهة والشفافية وحسن استغلال الموارد، وبذلك فقد المواطن والمجتمع وسائل الضغط على السطة التنفيذية والتشريعية في تامين مكتسباته والدفاع عن حقوقه.
يتضح مما تقدم أن حيوية المجتمع وقوته هي عنصر مهم وأساسي في استدامة تقدّم الدولة وحسن أداء السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. تقوية المجتمع تتم من خلال تقوية مؤسساته ومنظماته المدنية، المهنية والعمالية والسياسية والاعلامية.
في هذا العصر وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي استطاع المجتمع أن يوصل صوته إلى الجهات المسؤولة ويعبر عن انتقادات وتظلمات قد لا تصل من خلال الوسائل التقليدية. وهناك استغلال تلقائي لهذه الأداة، وجعلها أكثر قدرة على التأثير في القرار كما حدث في نهاية 2018 عندما علت اصوات المجتمع برفض قانون التقاعد مما حدا بمجلس النواب إلى رفضه بالاجماع ومن ثم تمّ سحبه من قبل جلالة الملك المعظم.
تمثل وسائل التواصل الاجتماعي، إذن، أداة مهمة يمكن للمجتمع ومنظماته الاستفادة منها في تعبئة الرأي العام لصالح قضاياه المطروحة، أمام المجلس والحكومة. السؤال اليوم أولاً، كيف يمكن للجمعيات السياسية التعاون مع نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي في توصيل رؤيتها في المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية واستعادة دورها المؤثر في تحقيق سلامة واستقرار الدولة وازدهار الاقتصاد الوطني ورخاء وتقدم المجتمع. ثانياً، كيف تتمكن من اقناع الرأي العام بالضرر الناتج من التعديلات على اللائحة الداخلية على صلاحيات المجلس والنواب وزيادة اضعافه بحيث لا يتمكن من أداء دوره الرقابي والتشريعي وما يترتب على ذلك من تقصير في خدمة المجتمع والدولة والاقتصاد الوطني. ثالثا كيف يمكنها أن تقنع المجتمع بأن العمل السياسي البرلماني هو عمل جماعي تقوم به جمعيات سياسية ذات قدرة على طرح المشاريع المتكاملة، وان ذلك يتعذر على الاعضاء المستقلين الذين يختلفون في خلفياتهم الفكرية ويصعب عليهم تشكيل تكتلات فاعلة نظرا لاختلاف خلفياتهم الفكرية وتشعب مصالحهم. أمام الجمعيات فرصة المبادرة بالتعاون مع نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي بالعمل على هذه المحاور الثلاثة بهدف تقوية المجتمع ككل.
كذلك على الجمعيات انتهاز الفرص في اشراك المجتمع في مناقشة قضايا تمس الحريات وصلاحيات المجلس. مثل هذه الفرص متوفرة وأهمها ما يطرح اليوم في المجلس حول المرسوم بقانون 38-2022 والذي ينص على تعديلات في اللائحة الداخلية للمجلس تفاقم من تقليص صلاحيات المجلس والنواب ووضعه تحت وصاية الحكومة ورئيس المجلس. في هذا المرسوم الكثير من المواد التي تقلص صلاحياته وبالتالي على الجمعيات السياسية توصيل ذلك إلى الرأي العام وتنظيم ندوات وحملات “اعلامية مجتمعية” لبيان تأثير هذه التعديلات. كذلك دور الجمعيات بيان أن ضعف المجلس في تمرير تشريعات تصب في مصلحلة المواطن مرتبط بضعف المجتمع ومنظماته المختلفة وتقليص دور الجمعيات السياسية ومشاركتها في المجلس، والتاكيد على أن العمل البرلماني عمل جماعي تقوم به جمعيات (أحزاب) سياسية أكثر قدرة على طرح المشاريع المتكاملة.
لا بد إذا من رفع الوعي في المجتمع بأهيمة استقلالية السلطة التشريعية والتاكيد على أن استقلالية المجلس تقتضي أن يختص المجلس نفسه بوضع لائحته الداخلية كما في دول عربية أخرى مثل الكويت والأردن ومصر. والتاكيد على أن فاعلية المجلس تستوجب تخفيف القيود على أدواته الرقابية مثل المناقشة العامة والاستجوابات، وأن تدخل السلطة التنفيذية في وضع اللائحة الداخلية واجراء تعديلات عليها تفرض مزيداً من القيود على اختصاصات وصلاحيات المجلس. مثل هذا التدخل المؤدي إلى زيادة تقليص صلاحيات المجلس قد يؤدي إلى فقد ثقة الناس فيه وارتفاع مستوى الاحباط في المجتمع.
هذه نتائج غير محمودة العواقب وقد تؤثر على الأمن والاستقرار الذي هو هدف وغاية أساسية للمجتمع والدولة والسوق ومصلحة وطنية عليا.