نصّ دستور مملكة البحرين في مادته الخامسة البند ج على أن الدولة تؤمن للمواطنين الرعاية الصحية واعتبرها من المقومات الأساسية للمجتمع، كما نص في المادة (8/أ) على أن لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بالصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية.
وتؤكد الصكوك الدولية على أن الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان لا غنى عنه من أجل التمتع بحقوق الإنسان الأخرى. ويحق لكل إنسان أن يتمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه ويفضي إلى العيش بكرامة. ويمكن السعي إلى إعمال الحق في الصحة عن طريق وسائل عديدة ومتكاملة مثل وضع سياسات صحية، أو تنفيذ برامج الصحة التي تضعها منظمة الصحة العالمية، أو اعتماد صكوك قانونية محددة.
ويُعد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من أبرز وأهم هذه الصكوك، إذ نصّ على أشمل مادة تتعلق بالحق في الصحة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، ووفقاً للمادة 12 من هذا العهد، تقر الدول الأطراف – والبحرين طرف فيه – (بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه)، وحددت هذه المادة على سبيل المثال، عدداً من التدابير التي يتعين على الدول الأطراف اتخاذها لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق هي: العمل على خفض معدل موتي المواليد ومعدل وفيات الرضع وتأمين نمو الطفل نموا صحيا، تحسين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية، الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها، وتهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض.
ولأشك أن مملكة البحرين تعدّ من الدول المتقدمة في تقديم الخدمات الطبية التي تقدمها وزارة الصحة من خلال الدور الحاضر والمؤثر للدولة في تقديم الخدمة العلاجية بتمويل من الموازنة العامة والحرص على تقدميها مجانا بدون مقابل، وذلك رغم ما يعتري هذه الخدمة من نواقص وقصور أشارت إليها تقارير ديوان الرقابة المالية المتعاقبة.
وقد كان المواطنون يتطلعون إلى معالجة هذه القصور والنواقص فيما تقدمه الدولة من خدمات طبية وهي ممكنة، غير أنه بدلاً من ذلك صدر عن السلطة التشريعية قانون الضمان الصحي رقم (23) لسنة 2018، ولعل أبرز الملاحظات على هذا القانون من خلال قراءتنا الأولية للمواد التي نص عليها، انه يكشف عن توجه صانع السياسية العامة نحو خصخصة الخدمات الصحية، وتخلى الدولة عن دورها في تقديم حق الرعاية الصحية للمواطنين، وكفالة وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية التي نص عليها الدستور في محاكاة لصعود النهج النيو لبيرلي الذي اعتمدته الدولة مؤخراً، ليس في الصحة فحسب بل في كل ما تقدمة من خدمات، وصل إلى القضاء.
إن هذا القانون يستهدف إعادة هيكلة النظام الصحي في البحرين ويهدف في جوهره إلى تقليل الاعتماد على نموذج الخدمات الطبية المجانية من الميزانية العامة، والدخول في نموذج جديد يعتمد بشكل أكبر كما هو مبين من أهدافه المنصوص عليها في المادة (3) على تقديم خِدْمات صحية تنافسية جاذبة للاستثمار من خلال هيئة عامة تسمى (صندوق الضمان الصحي)، كما يهدف إلى تحويل التنظيم الإداري والمالي للمؤسسات الصحية الحكومية من وزارة الصحة، واسناده إلى ما سمي بمجالس الأمناء التي لها الإشراف على سير العمل في المؤسسات الصحية الحكومية، والموافقة على تعيين الطواقم الطبية والفنية والتمريضية والإدارية العليا، وغيرها من المهام والصلاحيات التي نصت عليها المادة (65)، كل ذلك بذريعة توفير منظومة صحية متكاملة ذات جودة عالية تتسم بالمرونة وإنشاء نظام تمويل صحي يتسم بالكفاءة والاستدامة، في حين أن ذلك يمكن تحقيقه في المنظومة الصحية القائمة من خلال معالجة القصور والنواقص التي تعاني منها.
من جانب أخر فإن القانون رغم أنه نصّ في المادة (28/1) على التزام الحكومة بسداد الاشتراكات عن المواطنين ومَن في حكمهم، وذلك لتغطية المنافع المقرَّرة في الرُّزْمة الصحية الإلزامية للمواطنين، الا أن ما يخشاه المواطنون أن يكون مصير صندوق الضمان الصحي كمصير صناديق التقاعد، في ظل العجز في الموازنة العامة وارتفاع في الدين العام، حينها ستتعرض المنظومة الصحية إلى النيل مما كان يهدف اليه القانون من استدامة وكفاءة، قد يصل إلى تحميل جيوب المواطنين أعباء عجز الصندوق عن الوفاء بالتزاماته لا سمح الله.
وحين حدد القانون نطاق تطبيق أحكامه في المادة (2) فنص على سريانها على جميع المواطنين والمقيمين والزوَّار، لكنه استثنى من هذا السريان منتسبو قوة دفاع البحرين من العسكريين والمدنيين وأفراد أسرهم، على أن تلتزم كافة المؤسسات والمراكز الصحية الحكومية الخاضعة لهذا القانون بتقديم الخِدْمات الصحية لمنتسبي قوة دفاع البحرين وأفراد أسرهم على نفقة الدولة والمستشفيات والوِحْدات الطبية التابعة لقوة دفاع البحرين، يكون قد انطوى على استثناء يتصف بالتمييز بين المواطنين في تقديم الخدمات الطبية، بالمخالفة لنص المادة (18) للدستور، بل ويتعارض مع دستور منظمة الصحة العالمية الذي ينص على أن (التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان، دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة الأساسية أو الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية).