تشيخوف وأنهار سيبريا الخمسة
النظرة إلى ماحولنا ليست فقط محض “مشاهدة” سطحية تسجيلية للواقع، بل “رؤية“: ترصد، تحلل، تفهم، تقتنص تفاصيل المشهد، وتخزنه في الذاكرة. لاحقًا قد تتم اعادة انتاج المشهد في نصٍ أدبي، أو عمل فني، يساعدنا علي فهم أعمق لما شاهدناه. هذا ما فعله تشيخوف في كافة أعماله. ولكنه ترك لنا أيضًا نصائح ثمينة في ثنايا رسائله، يشرح فيها علي سبيل المثال لا الحصر، تقنيات وصف المشاهد الطبيعية. تساعدنا تلك النصائح في فهم كيف كانت عين تشيخوف “ترى” بمنظور يتجاوز المشاهدة السطحية. وبهذا المعنى من الجدير إعادة صوغ التساؤل التشيخوفي: “شاهدت كل شئ، ويبقى السؤال ليس عما شاهدته، بل كيف رأيته.” ليصبح: ليس فيما كتبه، بل كيف كتبه؟
فيما يتعلق بوصف الطبيعة علي سبيل المثال هناك نصيحة شهيرة نجدها في رسالة مؤرخة إلى شقيقه ألكسندر بتاريخ ١٩ مايو ١٨٨٦ يقول فيها: “أوصاف الطبيعة يجب أن تكون قصيرة ومباشرة… ركّز على التفاصيل الصغيرة، وقم بتجميعها بطريقة تجعل القارئ عندما ينتهي من القراءة ويغلق عينيه، قادرًا على رؤية صورة كاملة.” وفي رسالة أخرى إلى أحد الكتاب المبتدئين، ألكسندر جيركيفيتش، ٢ أبريل ١٨٩٥ينصحه تشيخوف:” أعتقد أنه في القصص مثل قصتك، ستكون أوصاف الطبيعة مناسبة فقط عندما تساعد في توصيل الحالة المزاجية، كما تفعل الموسيقى في اللحن.”
الباحث “جوليان كونولي” يلخص كل ذلك بقوله إن تشيخوف “يخفض الوصف إلى الحدود الدنيا معتمدًا على تفصيل محدد مختار لإثارة مزاج أو إحساس”. ولكن كيف ينتقي تشيخوف تلك التفاصيل “الصغيرة” ؟ السرّ يكمن في كيفية تعامله مع ذاكرته. عندما طلب منه أحد الأدباء ذات مرة أن يكتب انطباعاته عن مدينة “نيس” الفرنسية، إعتذر منه تشيخوف في رسالة مؤرخة بـ ١٥ ديسمبر ١٨٩٧ قائلا بأنه لايستطيع فعل ذلك إلا بعد عودته إلى روسيا. “لا يمكنني الكتابة إلا من خلال الذكريات… ذاكرتي تعمل مثل “الفلتر” الذي يستخلص من الموضوع ما هو مهم ومميز فقط.” لا غرابة اذا علمنا أن تشيخوف كتب قصته الشهيرة “في العربة” عن شقاء معلمة في إحدى قرى الريف الروسي، بينما كان يتعالج في مدينة “نيس” بفرنسا. كانت ذاكرته اليومية تستحضر روسيا حتى وهو في أوساط الريفيرا الفرنسية.
لن نعيد سرد مقاطع وصف الطبيعة كما وردت في كتابه” في سيبريا”، ولكن سنحاول تلمّس “تقنيات” الرؤية التشيخوفية في ثنايا رسائله التي بعثها خلال رحلته، وبعض المقاطع من كتابه. سنختار بعض المشاهد التي توحي بتقلبات مشاعره تبعا لما يراه.
سننطلق في اختياراتنا من وحي مقولة شهيرة قالها ذات مرة الشاعر السويسري من القرن التاسع عشر هنري فريدريك إميل: “كل منظر طبيعي يجسد حالة نفسية، ومن يتعمق في تفاصيل كليهما، سيدهش لدرجات التشابه بينها” .
يمكن اعتبار أوصاف تشيخوف عن الأنهار الخمسة التي سافر فيها بمثابة “باروميتر” لمزاجه من بداية رحلته حتي نهايتها. كل مشهد طبيعي يتضمن بداخله بورتريه (صورة ذاتية) لنفسيته، أو بتعبير معاصر “سيلفي” نفسي.
إنطباعاته عن نهر “الفولغا“، على سبيل المثال، نتعرف عليها عبر رسالة كتبها إلى شقيقته (٢٣ ابريل ١٨٩٠) من على متن الباخرة النهرية: ” بعد وصولي الى “ياروسلاف” بدأ المطر بالهطول بقوة، مما دفعني للالتحاف بمعطفي الجلدي. إنطباعاتي الأولي لنهر الفولغا تمّ تسميمها بالمطر، والنوافذ المبللة بقطرات الماء كأنها دموع … الشمس تختبئ خلف السحب، و السماء ملبدة بالغيوم، ونهر الفولغا الواسع يبدو قاتما…. كل ذلك يثقل النفس بالكآبة.. لا أستطيع الإشادة بجمال المشهد أمامي، فالبرد قارس، وأشجار البتولا عارية، وهنا وهناك تطفو بقع من الثلج على المياه – بإختصار ذهب الجمال الى الجحيم ! “كل ما تلتقطه عين تشيخوف، ينعكس كالمرآة في أعماق نفسيته: “لا أشعر بالبهجة ولا الضجر، كل مافي الأمر أن روحي أصابها ضرب من الخدر، لا أرغب في الحركة ولا الكلام.”
بعد عبوره “نيجني – نوفغرود” ، وصل الى “كازان” ، حيث إستقل باخرة نهرية متجها الى “بيرم” في رحلة عبر نهر “كاما” استغرقت أربعة أيام. لم يتحسن مزاجه على الإطلاق ( ٢٤ ابريل ١٨٩٠): “نهر الكاما ممل للغاية. للإحساس بجماله على المرء أن يكون من السكان المحليين، جالسًا بلاحراك بقرب كومة من الأسماك المجففة ويتعاطي الشراب حتى الثمالة. ضفاف النهر قاحلة، الأشجار عارية، والأرض بنية باهتة. هناك رياح لا يستطيع حتى الشيطان نفسه أن ينفخها بشدّة وكراهية. عند هبوبها تعكر المياه حتى تصبح بلون القهوة.. كل ما يشعره المرء هنا يتلخص بالبرد والملل والبؤس…البلدات على ضفاف الكاما رمادية، ويبدو أن جلّ ما يفعله سكّانها هو إنتاج الغيوم والملل والوحل في شوارعها.”
جزء كبير من مزاج تشيخوف المضطرب في رحلته عبر شرق سيبريا، يرجع الي اختياره الخاطئ لموعد سفره. وكما يلاحظ الناقد “دونالد رايفيلد” فإن تشيخوف سافر “إما مبكرا قبل اسبوعين، أو متأخرا بأربعة أسابيع” ، ويقصد بذلك أن ذوبان الثلوج وانتهاء فصل الشتاء وما ينجم عنهم من فيضانات في الأنهار وتقلبات الطقس الحادة ستصاحبه من منطقة الى أخرى، ومن نهر الي آخر. ما زاد في الطين بلة، انعدام خبرة تشيخوف في مثل هذا النوع من الرحلات. ها هو يكتب إلى شقيقته (في رسالة ٢٨ مايو ١٨٩٠) : “في السفر تتجلى عدم كفاءة المرء في الشؤون العملية. أنا أصرف نقودًا أكثر من حاجتي، وأرتكب الأخطاء فيما أقوله وأفعله، ودائما أتوقع ما لن يحدث لي.”
في السابع من مايو ١٨٩٠، وفي أحد الأكواخ التي قضى فيها ليلته للاستراحة، كتب رسالته الشهيرة الى ماريا كيسيليوفا، التي أفصح فيها – بصورة نادرة – عن مايعتمل في أعماق نفسيته: “حلّ الظلام. لم يقل السائق شيئًا. كان في حيرة من أمره. لكننا في أخر المطاف وصلنا إلى رقعة الأرض التي تفصل نهر “الإرتش” عن البحيرة…كانت ضفة النهر على إرتفاع ثلاثة أقدام عن الماء، طينية وزلقة، وموجات المياه العكرة تصفق الضفاف بعنف، لكن “إرتش” لم يهدر ولم يزأر، بل كان يصدر صوتًا غريبًا، كما لو أن شخص ما يسمر تابوتا في قاعه…. ها أنا جالس في كوخ وسط بحيرة على حافة النهر، أشعر بالرطوبة تخترق عظامي، والوحدة في أعماق روحي.أسمع قرع “الإرتش” على التوابيت، وعواء الرياح المستمر، وأتساءل: أين أنا؟ لماذا أنا هنا؟ “. هذا السؤال الوجودي المنبعث من أعماق نفسيّة تشيخوف المتأزمة، يبدو كصدى لصوت النهرالذي يسمعه، وتجسيدا لفكرة أن النفس مرآة الطبيعة.
بدأ مزاج تشيخوف بالتحسن في مطلع يونيو عندما شاهد لأول مرة نهر “الينيسي”. في رسالته إلى شقيقته في ٦ يونيو ١٨٩٠، بعد خروجه من كراسنويارسك في المساء، كتب تشيخوف: “نهر الينيسي واسع، سريع، متعرج، وأجمل من الفولغا …لقد عوضني منظر الجبال والينيسي عن كل متاعب ومشقة رحلتي حتى الآن.” ويقول لاحقا، في مطلع الفصل التاسع من كتابه “في سيبريا” مايلي: “المناظر الطبيعية التي طالما تغنى بها الشعراء تبدأ بعد نهر ينيسي.. دعنا نقول بدون أي إهانة للمعجبين الغيارى علي نهر الفولغا بأنني لم أر في حياتي مايفوق روعة الينيسي. قد يكون الفولغا نهرًا جميلًا ومتواضعًا وحزينًا، ولكن من جانب آخر، فإن نهر الينسي عبارة عن هرقل بكل قوّته وعنفوانه، ولايعرف ماذا يفعل بقوّته وشبابه. علي نهر الفولغا يبدأ الانسان بروح عالية، ولكنه سينتهي بتأوه يسمى أغنية. ستتحول آماله الذهبية إلى عجز تعارفنا علي تسميته بـ”التشاؤم الروسي”، بينما تبدأ الحياة في ينيسي بتأوه وتتنهي بمعنويات عالية لايمكننا أن نحلم بها. “لا يمكننا بعد قراءة هذه المقارنة إلا أن نتساءل مع أنفسنا: هل حياتنا كنهر الفولغا؟ ألا نرغب في أن نكون مثل نهر الينيسي؟”.
تزامن وصول تشيخوف إلى غرب سيبريا مع تغيّر جذري في الطقس، فالشمس مشرقة والهواء عليل، ومناظر الطبيعة بتنوّعها وسحرها تخطف الأنفاس، خاصة في بحيرة بايكال ولاحقًا نهر الآمور. في ٢٠ يونيو ١٨٩٠ يكتب إلى “لايكين” من على ظهر سفينة تبحر في نهر آمور: “مزاجي شبيه بمن إجتاز اختبارّا بنجاح”. ويكتب إلى شقيقته في ٢٣ يونيو ١٨٩٠ عن نهر الآمور: “لقد إجتزت أكثر من ألف كيلومتر مبحرًا في نهر الآمور، وشاهدت ملايين المناظر الطبيعية الخلابة. أشعر بالدوار من النشوة …يا لها من مشاهد جميلة.” بعدها بثلاثة أيام في ٢٧ يونيو ١٨٩٠ يكتب رسالة إلى سوفرين يصف فيها تجربته: “أنا غير قادر على وصف جمال شواطئ الآمور. أنا في حيرة تامة أمام هذه المهمة، وأعترف بإفلاسي. كيف يمكن للمرء أن يصفها ؟ ..الصخور والغابات والآلاف من البط البري ومالك الحزين والأراضي الشاسعة .. كل شئ في ذهني مشوّش… أنا في حالة غرام بنهر الآمور، وسأكون سعيدًا لو قضيت بضع سنوات علي ضفافه.هنا الجمال والفضاء الواسع والحرية والدفء. أدنى سجين هنا سيتنفس بحرية تفوق أعلى الجنرالات رتبة في روسيا.”
لم تستمر نشوة تشيخوف بسحر الطبيعة علي ضفاف آمور طويلًا. فبعد مغادرته نيكولايفسك، المدينة المطلة علي المحيط الهادئ، متجهًا إلى وجهته الأخيرة ساخالين، ترك لنا وصفًا جديرًا بأحد مشاهد أفلام هوليود الأسطورية للحظة وصوله الجزيرة: “عندما ألقينا المرساة في التاسعة مساء كانت الحرائق الكبيرة تشتعل في خمسة مواضع. لم أتمكن من رؤية أرصفة الميناء والمباني بفعل العتمة والدخان المنتشر في الأجواء. لمحت أضواء المخفر الشاحبة وميّزت إضائتين باللون الأحمر. وبدا لي شيئًا خياليًا المشهد الفظيع الذي تشكل من الظلام الحالك، وأشباح الجبال والدخان واللهب وألسنة شرارات النار… على الجانب الأيسر من المشهد كانت ألسنة النيران تشتعل بضراوة، ومن فوقها الجبال التي تعلوها هالة حمراء بفعل الحرائق البعيدة.. بدا الأمر كما لو أن سخالين بأكملها اشتعلت فيها النيران. ..والدخان يغطي كل شئ كما في جهنم.”
لقد وصل تشيخوف إلى “بقعة الآلام التي لاتحتمل”.