القيثارةُ الوتريَّة.. رمزُ إبداع الحضارة الدِلمونيَّة

0
52

لعل من أبرز السمات الملحوظة في المُجتمع البحريني تلك العلاقة الوثيقة بين الإنسان والدين وبين الإنسان والفن أو الإبداع بوجهٍ عام على الأرض ذاتها، إذ يمتاز سُكان هذه الجزيرة بمزاجٍ شاعري مُرهف يُغذّيه هواء البحر الذي تعزف أمواجه على سواحلها الدافئة من جميع الجهات، ومن هذا المزاج الشاعري انبثقت الإبداعات الفنيَّة الدِلمونيَّة منذ 2500 عام قبل الميلاد، وتم تسخير بعض أشكال الإبداع الفني لتكون في خدمة المعابِد والطقوس الدينية المُقدَّسة. عام 1955م تم اكتشاف بقايا آلة اجتمع فيها الفن التشكيلي والموسيقي تحت أرضية المذبح الرئيسي في معبد باربار الثاني الأثري، من هذا الاكتشاف انطلَق اهتمام الفنان التشكيلي الباحِث البحريني المُهتم بشأن الحضارة الدِّلمونيَّة/ محمود عبد الصاحب البقلاوة، وقرر أن يتخذ موهبته في الفن التشكيلي وسيلة لتصميم رسم هندسي يصوِّر شكل تلك الآلة الموسيقية مُستعينًا بزاده المعرِفي المُقتبَس من أبحاثه التاريخية وقراءاته المُتعمِّقة في هذا المجال ورحلاته بين المتاحف العالميَّة إضافةً إلى ما رآه من صور اللُقى الأثرية ولا سيَّما الأختام الدِّلمونيَّة ذات النقوش والرسوم التي نقلت صورًا من مشاهِد الحياة الواقعيَّة على أرض دِلمون،  فيهبُ جانبًا ثمينًا من وقته ومجهوده لصنع تلك الآلة من موادها الأوَّلية المعروفة في ذاك الزمن ليكون جسم القيثارة من لحاء الشجر وأوتارها من امعاء الماعز، ثم يؤلف عنها كتابًا يُمكن اعتباره مصدرًا قيمًا من مصادر المعلومات التاريخية على أرض البحرين بعنوان: “قيثارة دِلمون الوتريَّة”.

  • الأدلَّة الماديَّة على وجود القيثارة:

لوجود قيثارة دِلمون في ذاك العصر أربعة أدلَّة ماديَّة عدَّدَها المؤلف في الكتاب، أولها (رأس الثور) الذي يُعتبر جزءًا من مُقدمتها، والذي تم اكتشافه في المعبد الثاني من مُجمع معابد باربار، ثانيها (الأختام الدلمونيَّة)؛ لا سيما أختام جزيرة فيلكا الموجودة في متحف الكويت الوطني، ثالثها (النصوص الأدبية والتجارية) باللغة السومرية والأكدية التي كُتبت بالخط المسماري مُشيرة إلى قيثارة دِلمون، ورابعها القيثارات الموجودة في المتاحف العالمية والعائدة لحضارات الشرق الأوسط وبلاد وادي الرافدين حيث كان الاتصال الثقافي قائمًا بين جزيرة دِلمون وبينها.

  • المُعتقد الديني الدِّلموني:

يذكر المؤلف أن كثرة المعابد المتنوعة والمُتعددة وكثرة المدافن المُختلفة تؤكد أن المُعتقد الديني الدلموني كان قائمًا على عبادة الآلهة؛ خضوعًا وعجزًا واعترافًا بمحدودية الكائن البشري أمام ما هو أشد وأعلى منه، كما أن وجود تلك المعابد في حُقَب دِلمون؛ بدءًا من معابد باربار الثلاثة حتى معبد موقع مُدن دِلمون القديمة مرورًا بمعبد عين أم السجور ومعبد الدراز ومعبد مستوطنة سار في الطرف الشمالي لجزيرة دِلمون فيه دلالة على أهمية المُعتقد الديني المُقدس في حضارة دِلمون وتايلوس، وحسب ما جاء في ملحمة “كَلكَامش”؛ تكون أرض جزيرة دِلمون هي الموطن الإلهي الأصلي الذي احتضن البشرية قبل الطوفان وبعده بفضل الإله الذي أوحى للمبعوث الحكيم “زيوسودرا” الطريقة المُثلى لتأدية تلك المهمَّة، وفي أرضٍ كان للمعتقدات الدينية فيها تأثيرًا كبيرًا على المُجتمع؛ كان العزف على “قيثارة دلمون الوترية” يُرافق الشعائر الدينية في المعابد الدلمونية، وهو ما يتوافق مع تقرير بعثة التنقيبات الأثرية الدنماركية الذي أشار إلى القيثارة في كتاب “معابد باربار الأثرية” قائلاً: “الموسيقى كانت ميزة ملحوظة للمراسم الدينية السومرية، والكثير من التصويرات عن الأداء الموسيقي قد وصل إلينا مُشتملاً على بعض المشاهِد الآسِرة التي تصوِّر الحيوانات على أنهم موسيقيون. إنما في مراسم المعبد في باربار؛ يجب الافتراض بأن ألحانًا رنَّانة مهيبة كانت تتعالى من الساحات لتعويذ الآلهة، وكان إنشاد الكهنة بلا شك يتناغم مع صوت المزامير والقيثارات والناي وآلات النقر التي تضم الطبول والمخشخشات، وشيئًا يُشبه آلة الصنج التي تُصدر صوت الصلصلة”.

  • القيثارة ورأس الثور المُكتشَف:

عام 1955م اكتشفت البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار في البحرين بقايا رأس ثور منحوت من البرونز تحت أرضية المذبح الرئيسي في معبد باربار الثاني، وبالنظر إلى كون الثور مُقدسًا في دِلمون باعتباره رمزًا لقوى التكاثر والتناسل واستمرارية الوجود، إضافةً إلى أن تقديم القرابين – ولا سيما إن كان القربان ثورًا- كان يُرافَق بعزفٍ لتهدئة هذا الثور؛ فوقَ ما يُمكن استنتاجه بعد الرجوع إلى الرسوم والنقوش الأثرية والأختام الدلمونية اكتشف الباحثون أن هذا الرأس كان جزءًا من مُقدمة قيثارة خشبيَّة وتريَّة كانت تُستخدم في الطقوس الدينية أو الخاصَّة، وبهذا الصدد يؤكد المؤلِّف: “إن العثور على رأس الثور البرونزي والذي يعود إلى قيثارة معابد باربار عام 1955م مع اكتشاف بقايا آثار القيثارة التي تحللت موادها الخشبية بسبب الظروف البيئية والعوامل الطبيعية يُعد دليلاً أثريًا حاسِمًا على وجود قيثارة دِلمون الوترية الخاصة.. صـ 77صـ 81”.

  • الأختام الدلمونية والقيثارة:

كانت الأختام الدلمونية شاهدًا على وجود “قيثارة دِلمون الوتريَّة” في تلك الحُقبة الزمنيَّة، وعن هذا يقول المؤلِّف في صـ113 من كتابه: “من بين الأدلَّة الأثريَّة لبقايا آثار القيثارة الدلمونية الأختام المكتشفة في المواقع الأثرية لحقبة دِلمون في جزيرة فيلكا بالكويت، والتي تُشير في تصويرها الفني البديع إلى القيثارة المكونة من جسم ثورين يجلس خلفهما عازف يعزف على أوتارها بأصابعه، مع وجود بعض التفاصيل في الختم لرأس الثور الذي به عينان واسعتان مجوفتان”.

  • القيثارة والنصوص القديمة:

تضمَّنت الرقم الطينية المدونة بالخط المسماري على معلومات تشير لاستخدامات ما أُطلق عليه “قيثارة الرثاء الوتريَّة” بصيغ مُتعددة ذكَر الكتاب منها: “القيثارة/ عازف قيثارة الرثاء/ قيثارة أور/ قيثارة دِلمون”، ويُضيف المؤلِّف: “إن الدليل الكِتابي الدال على قيثارة دِلمون يشير إلى أن هناك شُحنة تجارية آتية من دِلمون عبر بلاد وادي الرافدين إلى حضارة إيبلا في الشام، ومن ضمن هذه الشحنة قيثارة دِلمون.. صـ128”.