أين مشروع الميزانية العامة 2023 – 2024 من الفرص المستجدة؟

0
109

كثيرا ما يأخذنا الضخّ الإعلامي للحكم على جدوى الميزانية بمدى تحقيقها للتوازن المالي، وما إذا كانت تضعنا على طريق الاستدامة المالية!! قراءة كهذه لا تكشف الجوهر الأهم لوظائف الميزانية. الميزانية العامة أخطر بيان خلال العام يعكس جوهر السياسة الاقتصادية الاجتماعية للدولة وموقفها من التنمية المستدامة بكل جوانبها ونوعية الحياة عموما ومحتوى علاقاتها الإقليمية والدولية واستيعابها لمتغيراتها. وكل ذلك على قاعدة الموارد المالية التي يمكن للدولة تعبئتها وتوجيهها. أي أن كل رقم في الميزانية يحمل مضمونا أبعد بكثير من البعد المحاسبي.

لكن هل يا ترى قرأ مشروع الميزانية ذاته دينامية مستجدات الأوضاع الدولية والإقليمية وما تطرحه من تحديات؟ مقدما نقول: لا، للأسف. ولنُشَرِّح هذا الادعاء بالنسبة لموضوعات رئيسية ثلاث.

احتساب سعر برميل النفط

في جانب تكوين القاعدة المالية التي تؤمن حُسن أداء الميزانية لوظائفها أخفق مشروع الميزانية في تلك القراءة. كان واضعوها شديدي المحافظة باحتسابهم رقمًا غير واقعي لسعر برميل النفط بستين دولارا، وعليه تقدير دخل الميزانية من عائدات النفط. أكد وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان في حديثه بُعيد إقرار ميزانية المملكة الشقيقة للعام الحالي بأنه سيكون لدول أوبك+ تصور مستقبلي بشأن أسعار الطاقة يجعلها أكثر استقرارا … “أطمئن الجميع لن نتردد في معالجة جوانب السوق بما يحافظ على قدرتنا على تنفيذ برامجنا”. 

والأمور تسير هكذا بالفعل. فمنذ إبريل 2020 بات حالُ أسواق النفط يميل لمصلحة المنتجين. عزز ذلك قرار أوبك + بخفض الإنتاج بمعدل 1.7 مليون برميل يوميًا قبل مراجعته آخر العام. وبرغم كل الضغوط الأمريكية والأوروبية، أثبتت دول أوبك+ أنها سيدة قرارها. ورغم التراجع المؤقت للأسعار في الفترة القريبة الماضية نظرًا لانتهاء فصل الشتاء، إلا أن وكالة الطاقة الدولية تتوقع للنصف الثاني من العام أن يتجاوز الطلب العرض بنحو مليوني برميل يوميا، “لأن توازنات السوق باتت أكثر إحكاما”. وترجح المؤشرات توسعًا متزايدًا في الطلب الصيني والآسيوي عمومًا بما يعوض ضعف الطلب الغربي الناجم عن الركود الاقتصادي المتصل. والآن، يعاود سعر البرميل الارتفاع إلى 79 دولارا. وبما أننا على وشك منتصف سنة الميزانية 2023 ومتوسط سعر البرميل حتى الآن 75 – 80 دولارا، فبناء على كل ما أوردناه أعلاه، نستطيع القول بثقة أن اقتراح كتلة “تقدم” البرلمانية باحتساب سعر البرميل في الميزانية بسبعين دولارا واقعي تماما، بل ويضمن تحقيق فائض على ذلك. 

الإيرادات الضريبة

 تعكس السياسة الضريبية جوهر الموقف من التنمية المستدامة ومن القضايا الاجتماعية. المصدر الطبيعي لإيرادات الميزانية يجب أن يتحقق من مجال النشاط الاقتصادي. أما الميزانية الحالية فتتقاسم مع الناس دخلهم عن طريق تحصيل ضريبة القيمة المضافة التي تزيد على 86% من إيرادات الجهاز الوطني للضرائب، بينما الضرائب على الشركات تساوي صفرا. وهذا يحدث بعد أكثر من ثلاث سنوات على قرار منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بفرض 15% كحد أدنى للضريبة على الشركات الكبيرة. وكذلك على الشركات التي تحقق مبيعاتها عبر الإنترنت. كان هذا سيرفد الميزانيات منذها بقرابة نصف مليار دينار سنويا. أضف إلى ذلك إمكانية الضرائب على الثروات غير المستثمرة، والأراضي البيضاء. وجميل أن يؤكد معالي وزير المالية الالتزام بضريبة الشركات، لكنه لم يحدد متى وكم الحد الأدنى. تجب الإشارة إلى أن التأخر في ذلك يعني استمرار خسارة الفرص التي فوتتها ميزانيات 2021 و2022.

المؤسسات الإنتاجية والاقتصادية التابعة للدولة 

في إطار القابضتين “ممتلكات” و”نوغا” لا تتمتع بالإفصاح والشفافية اللازمتين لتبيان مستوى أدائها والقدرة الحقيقية لإسهامها في رفد إيرادات الميزانية. أليس غريبا أن يشكل إسهام هذه الشركات مجتمعة الخُمسَ فقط مما تدره على الميزانية ضريبة القيمة المضافة (100 مليون مقابل 500 مليون دينار)؟!! ألا يقتضي ذلك مراجعة وتدقيق أوضاع هذه الشركات، وهو ما دعت إليه كتلة “تقدم” في مرئياتها؟!!

تضخم أجهزة الدولة ومؤسساتها 

ينوخ هذا التضخم بثقله على نفقات الميزانية، حيث استحداث الهيئات النظيرة للوزارات بهدف التسريع بعمليات فك ارتباط قطاعات الخدمات الضرورية بالدولة ونقلها إلى القطاع الخاص، الأجنبي بدرجة أولى. إن تعدد المؤسسات والمسؤوليات يفضي إلى التوسع في توظيف المسؤولين ذوي الرتب العليا والامتيازات الكبيرة، بينما الدولة متجهة إلى “ضبط نفقات القوى العاملة”، أيْ تخفيض فرص العمل وتقليص الحقوق المكتسبة فيما يتعلق بالوظائف الاعتيادية فيها. من هنا أهمية دعوة كتلة “تقدم” إلى ترشيق أجهزة الدولة مع الإبقاء على وظيفتها كضامن لعمل أكبر عدد من المواطنين. 

إذن، فطبيعة ووجهات جانبي الإيرادات والنفقات تفصحان أن مشروع الميزانية سيزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً. وهنا لنا أن نستشهد بقول بيرني ساندرز، المرشح الديمقراطي المنافس للرئيس الأمريكي الحالي: “لا يمكننا الابتزاز لتحقيق التوازن في الميزانية على ظهور الفئات الأكثر ضعفا وترك الأكثر ثراء وشأنهم.”   

تحويل التهديدات إلى فرص

 تحدث جلالة الملك في كلمته أمام القمة العربية في جدة عن “بوادر مبشرة لبلورة نظام إقليمي متجدد ومتوازن، والمتمثلة في: استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، واستمرار الهدنة الإنسانية في اليمن والجهود الجادة لحل أزمتها، والعود الحميد للشقيقة سوريا إلى بيت العرب الكبير”. إن هذا يعني فرصا واعدة للتعاون من أجل التنمية لصالح بلدان المنطقة وشعوبها. ولا شكّ أنه يجب الحفاظ على مستوى لائق من القدرات الدفاعية والأمنية، لكن على قدر التحديات التي نواجهها. وأن جزءا لا بأس به من النفقات العسكرية والأمنية يجب أن يوجه كي تحتل مملكتنا مكانها المناسب في الحركة التنموية الإقليمية المستجدة. وفي هذا الاتجاه دفعت “تقدم” بمقترح محدد. 

المشاريع

 والمنطقة متجهة بشدة نحو استيعاب الاستثمارات النوعية فيها، لا تعكس مشاريع الميزانية هذا الاتجاه. هذا واضح من جانبين: غياب الإنفاق الاستثماري لعدم وجود خطة تنموية برؤى استراتيجية عصرية ولا صناديق استثمارية لحفز الحراك الاقتصادي في قطاع الدولة وشراكته التنموية مع القطاع الخاص الوطني والأجنبي وتوجيههما نحو الاستثمارات العصرية ذات السعة التكنولوجية والإنتاجية العالية، وكذلك الاستثمارات في أمننا الغذائي بإدخال أحدث التقنيات في قطاع الزراعة وصيد الأسماك والحرف ذات الصلة. 

الميزانية والتضخم

 تتحدث المعطيات الرسمية عن انخفاض معدلات التضخم من 3.2% إلى 2.5% بين عامي 2022 و2023، إلا أن التضخم في أسعار المواد الغذائية والمشروبات قد بلغ في مارس 2023 مستوى 7.5% رسميا. أما تقرير البنك الدولي في يناير 2023 عن الأمن الغذائي في العالم والذي أوردته الصحافة المحلية فقد أدخل البحرين ضمن القوائم الحمراء بعد أن سجلت بين يناير ونوفمبر 2022 ارتفاعا في أسعار الأغذية تراوح بين 5% و30%!! كما أن بذرة تضخم كانت قد أُودعت في أسعار السلع والخدمات الضرورية منذ بدأت الميزانيات رفع الدعم عنها. 

أما سعر الفائدة على الدينار الذي تم رفعه عشر مرات خلال العامين الماضيين فقد جعل الفائدة على قروض الناس الأضعف والشركات الصغيرة والناشئة تصل إلى 9% أو تزيد. ارتفاع سعر الفائدة يعني ارتفاع سعر القرض، يعني تضخما. ويعني كذلك انعكاسه تضخما على سلاسل الإنتاج اللاحقة. من الصعب أن نعرف القدر الحقيقي لكل هذه الأنواع الظاهرة والمستترة من مستويات التضخم، لكننا نعرف أن حبلها السري مرتبط بسياسات الميزانية التقشفية في الإنفاق الاجتماعي والتوسعية في الإنفاق غير المجدي.

مشكلة الدين العام

حقاً تتحول هذه المشكلة إلى أزمة مستفحلة. قبيل الأزمة العالمية 2008 – 2009 كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في حدود 10%، ارتفعت إلى 25% عام 2009، إلى 35% عام 2010، وهكذا وصولا إلى ما يفوق 100% في الأعوام الأخيرة. وطفرت فوائد الدين العام من 80 مليون دينار عام 2007 إلى ما يزيد على 700 مليون دينار عام 2023!! بينما يقول التقرير المرفق بمشروع الميزانية الحالية أن الدين العام هبط إلى المستوى الآمن. هذا في الوقت الذي تشهد الاحتياطات النقدية واحتياطات الذهب لدى المصرف المركزي تراجعا محسوسا!! وفي هذا الصدد من المفيد أن نورد قول السناتور جون فيترمان في الجدل الدائر هذه الأيام حول سقف الدين العام الأمريكي: “لا يمكنني بضمير حي أن أؤيد اقتراح سقف الديون الذي يدفع الناس إلى الفقر”.

أما لدينا فلا يوجد قانون للدين العام أصلا، بعد أن باء بالفشل مشروع هذا القانون في عام 2008 حيث كان من الممكن أن يُمكِّن السلطة التشريعية من تحديد سقف الدين العام ورسم ومراقبة سياسة إصدار أدواته وتوازناتها. والآن تعتزم الحكومة بيع صكوك مالية مقومة بالدولار الأمريكي وبعائد 6.87% لست سنوات و8% لسندات بأجل 12 عاما. يعني أننا ماضون في ارتفاع الدين العام بكل تبعاته الوخيمة.

مرئيات “تقدم” ومقترحاتها كفيلة بعكس اتجاهات الميزانية وجعلها تنموية المحتوى، اجتماعية الأبعاد ومستقبلية الآفاق. وهي تبين أن مثل هذه الإمكانيات متوافرة موضوعيا. أما ذاتيا فهي بحاجة إلى إرادة سياسية نيابية، شورية وحكومية مشتركة.

يمكن الجزم بأن ما حققه نواب الكتلة الوطنية الديمقراطية والنواب الآخرون عام 2002 واسترداد مئات آلاف الدنانير إلى الميزانية وصندوق التقاعد شكل سببًا رئيسيًا لتولُّد القناعة لدى جماهير واسعة وقواها بأهمية المشاركة البرلمانية عام 2006. الوضع الآن بحاجة إلى ذات الموقف من أعضاء مجلسي النواب والشورى، وتجاوب الحكومة طبعًا، لكسر حالة الإحباط لدى أعداد كبيرة من المواطنين.