أهل التِّيه

1
49

ساعة من التِّيه في حضن المسرح على مركب؛ لثلاثة من الغاصة وابن نوخذة، قرروا سرقة حصيلة اللؤلؤ والفرار بعيداً عن المحمل الكبير. وما إن فعلوها، حتى التهمهم التشتت، واختلاف الأهداف، والطموح، أوصلهم إلى تيه حِسّي في البداية بين أفكارهم وسعيهم، وبين ما وصلوا إليه من ضياع حقيقي لأخلاق وإنسانية وجهة وصول اجتهدوا للوصول إليها، وحتى الطمع بالحصيلة لم يعد ذا أهمية، وقد تقلص الماء، وبات الموت وشيكاً. فما نفع الغنى بعد الحياة؟

حدث مكتوب بشكل تقليدي للكاتب المسرحي السعودي عباس الحايك، عبر فعل سبق العرض، وهو السرقة التي اتفق عليها الأربعة، ومن ثم يبدأ مباشرة في المركب الذي تدور فيه الأحداث، حتى يحصل ما هو متوقع: ألا تتحقق أمانيهم التي أتت على حساب بقية البحارة على السفينة الكبيرة؛ حيث نهبت كل الحصيلة، على أمل أن يبدأ كل منهم حلمه الذي حسبه بعيداً لضيق ذات اليد، والفقر، والتقتير عليهم من قبل النوخذة، وعيشهم المستمر تحت تهديد الديون؛ وينهي الحايك نصه برمي المسروقات من قبل ابن النوخذة في قاع البحر، بعد احتداد الآراء، ورمي أحد البحارة نفسه وراء الثروة التي طالما حلم بها؛ فحياته لا تساوي شيئاً وهو فقير معدم كما يكرر هو في مضمون حواراته مع الآخرين.

أما العرض، لمخرجه جاسم العالي، فقد نقلنا في “التِّيه” مع شخوصه في قاعة صغيرة محكمة؛ بعيداً عن الخشبة التقليدية، يلتحم فيها الجمهور مع الممثلين، الذي خرجوا بدورهم للحاضرين قبل البدء، وكسر الوهم عن شخصياتهم التي ستلبسهم بعد قليل، خصوصاً في ظل عدم وجود ستارة تحجب الحدث وما قبله عن الحضور، وقد لا يفصل فيها المتلقي الممثل عن شخصيته خارج العرض، لكن نظرة فاحصة للمكان تؤكد أن كل الموجودين في هذه القاعة متورطون؛ حيث لا حدود فاصلة بين الطرفين! وهذه شراكة غير مختارة من قبل الجمهور الذي أتى مشاهداً، فأصبح ضمن الحدث بغير إرادته.

قطعة الديكور الأساسية عبارة عن صارية في المنتصف، ثابتة في نصفها، ومتحركة في الطرف حسب الحركة، وإضاءة زرقاء معظم الوقت لا تمنحك الفرصة أن تستقل بعيداً عن العرض، كأنّها حبس إجباري، ولكنه وجد نفسه في منتصف اللعبة؛ فلا يستطيع المغادرة، ولا يقدر أحد أن يكسر جو التعايش، لأن الباب يغلق، ولا يسمح لأحد بالدخول أثناء العرض لكي لا تنتهي اللعبة. فهناك إغراق في معاناة فردية لكل منهم، وصراعات بينهم، كل هذا والوقت محدود. فهم في قرارة أنفسهم ميتون في كل الأحوال.

وفي عرض “التِّيه” الذي حمل اسم النص بلا تغيير، اجتهد المخرج في إخضاع أكثر من مدرسة في رؤيته للعمل، وهو أمر حميد لو استخدم بشكل متساوٍ يخدم بعضه البعض. لكن حين تكون هناك مسافة بين العناصر وبعضها، فلا بد من تفصيل مفيد. فالحايك قدّم نصه في مكانه، وفي بيئته الأساسية في الخليج؛ حيث كل العلامات التي تعطي معلومات عن المكان: النوخذة/ الغوص/ اللؤلؤ/ الدانة وغيرها الكثير الذي يعطي الحقبة الزمنية التي تحمل شكلها وعلامتها أيضاً، لذلك سمى شخصياته بأسماء خليجية قديمة، مناسبة، وتليق بسياق الحدث وتوقيته.

أما الرؤية الإخراجية، فقامت بتغيير الأسماء إلى: كروان، ومرجان، وعمران، وفرحان، وهذا السجع – إن صحّ المعنى- غير مثمر في نمو العرض، بل أدعى أن تكون هذه الأسماء في إطار كوميدي أو خيالي؛ مثل سياق ألف ليلة وليلة الذي يحفز على حفظ الشخصيات الكثيرة في قصصها، والمقرونة بأفعال تعني أسمائها. وقد يكون هذا الأمر مطبقاً على كروان، المعادل لشخصية النهام على ظهر السفينة، باعتبار أنه الصوت الجميل في الحالتين، لكنه إضعاف للحالة العامة التي تتطلب قدراً كبيراً من التراجيديا التي تثير التعاطف، والقهر، ومن ثم المأساة، والأسماء -هنا- لا تتسق بالتأكيد مع الحالة. ولو عمل المخرج على تسمية الممثلين بأسمائهم الحقيقية -على سبيل المثال- أو أسماء مقاربة لهم، لكان هذا أفضل للعرض، وأقرب للواقع وربط الأشياء ببعضها. وعلى صعيد متصل؛ يمكن ألا يكون هناك اعتراض في حال لو سرت هذه الأسماء على الجميع. لكن إقحام اسمي البنت (هدى) والحبيبة (ندى) في زمن الغوص؛ حيث لم يكن الإسمان متداولين في الخليج في وقت الغوص، بالإضافة طبعاً إلى عدم مناسبتها مع أسماء الذكور، يتطلب إعادة حساب وتناسقاً محسوباً يأخذ العرض إلى منطقته المناسبة.

أيضا إدماج الحضور بالصالة، وإلغاء الحائط الرابع، يتطلبان مقاربة الحدث للجمهور، وهذا يتم عبر فهم مكنون الشخصية ودوافعها في الفعل. فالبحارة الثلاثة يشتركون في الفقر والعوز والحاجة الشديدة إلى المال، لكن نوازعهم مختلفة؛ كروان المحب الشاعري الذي يترجى من هذا المال أن يستطيع الزواج بحبيبته، والآخر الذي يمنّي نفسه بالرجوع إلى ابنته بكل ما تطلب، أما الثالث فالمال قضيته الأولى قبل كل شيء، وحاجته لا تقل عن الباقيين، لكن هدفه الأوحد في الحياة الغنى. ابن النوخذة فعلها معهم لرغبة داخلية في الانتقام من سيطرة والده، ومن وضعه الذي لا يعجبه، وهو الذي تمنى أن يولد لأب غيره؛ فلاح أو نجار. ولأن الحوارات غير مشبعة، لم يصل المعنى بالكامل، ولِمَ هو حانق عليه بهذا الشكل الذي يجعله يتمنى أباً آخر. فالآخرون ألمحوا إلى وضعهم بأسلوب مقارب للطريقة الشعرية، على حين أنه يجب أن يستشعر كل فرد فيهم هذا التِّيه في الضياع، والاختلاف، والعطش، والاختلاف، والقصور في التفكير، والمقارنات، ووحدة الأهداف وتشتتها نتيجة عدم الانسجام والتفاهم، حتى يصل المتفرج إلى نفس الإحساس بالتِّيه.

وينعكس هذا أيضاً على الاكسسوارات المستخدمة في العرض، والتفاصيل مهمة هنا. فأولها بقع الملابس “النظيفة”، والملطخة ببقع تبدو موحدة ومنظمة إلى حد كبير. ماذا لو منح العرض الحرية لكل ممثل أن يفعل بزي شخصيته ما يراه مناسباً؛ من بقع، أو تلطيخ معتاد من غاصة استغرقوا في عرض البحر على المحمل شهوراً، قبل أن يهربوا بما سرقوه على المركب الصغير؟ الحالة ستكون أصدق وأقرب لحقيقة حياة البحار؛ من اهتراء أو تغير اللون الأبيض “الناصع”، بحكم طبيعة العمل المرهقة. ويطول هذا أيضاً الاكسسوارات المستخدمة من حبل، و”فنر”، وخاتم زواج في يد أحد الممثلين! هي تفاصيل صغيرة، ولكنها مؤثرة، وتضرب في أصول اللعبة المحكمة التي أرادها المخرج لعرض متكامل.

واتكل جزء كبير من العرض على “كروان”/ النهام الذي أثرى الحدث بمواويل وصوته الذي يعد إضافة إلى موهبة وحضور الممثل عقيل الماجد، خصوصاً في وضعه كعاشق لم ولن يطال محبوبته التي باعد بينهما الفقر. هذا الغناء يظهر صادقاً ومتوحداً مع الحالة. لكن لو قنن العرض هذا الاتكال حتى يشتاق المتلقي لهذا الشجن، ومن الناحية الأخرى يتم التركيز على تصدير حالات الآخرين عبر حوارات توضح تاريخ الشخصية، وتفاصيل أخرى مهمة؛ سواء كانت موجودة في النص الأصلي للحايك، أو تلك التي يراها المخرج إضافة للعرض، كما فعل في أكثر من موقع.

ومن الواضح أن الأداء التمثيلي للمجتهدين الأربعة يحوطه انسجام واضح، رغم طبيعة العلاقة داخل اللعبة التمثيلية، ويستشعر المتلقي هذا في أدائهم العام، الواثق والمتكامل؛ إذ لا أحد يرغب في العلو على أداء زميل، عدا قليل من التشنج لدى شخصيتين لم يتجاوز الثواني. كما أن وجود ابن النوخذة، المرسومة شخصيته بعناية، تتناسب مع العنجهية الكاذبة التي تظهر عند الشعور بالورطة، وانحسار فرض النجاة مهم في الحدث، وتكوين شخصيته الهشة التائهة أيضاً بين شخصية الأب المسيطرة، وبين عدم امتلاكه أي عمل يجعله فارغاً من الداخل، وهذا ما يخلق الخلافات بينه وبين الآخرين. ومع أن جميع الأدوار متساوية، إلا أن وجوده بينهم ضاعف الصراع؛ إذ يستند على قوته “الوهمية” ضد الباقين الذين يستسلمون لهذا الضعف، ويكمل أحدهم دور الخادم برضا معتاد، كأنّه خنوع نألفه بين رئيس ومرؤوس في مستويات عدة! بينما في واقع الأمر أن الجميع متساوون في كفة واحدة. وهذا الذي تهفو نفسه إلى المال، أياً كان مصدره وأياً كان المصير الذي سيقوده إليه، حتى لو رمى نفسه إلى التهلكة بإرادته! كلها نماذج قريبة ومشاهدة، وكلنا نعرف شخصاً أو أكثر بهذه المواصفات.

من الجميل أن هذا العرض قد بُني على أساس تقديمه في أماكن مختلفة؛ لسهولة التنقل، وعدم الحاجة إلى تعقيدات شكل الخشبة التقليدية، وهي فكرة نبيلة ومجدية، قياساً بأغلب العروض التي تعتمد على تدريبات مطولة، وتكتفي بليلة عرض أو عرضين في الغالب، عدا عن العروض التي تصمم أصلاً للمشاركة بها في المهرجانات الخارجية، دون أن يكون لها عرض واحد داخل الدولة! لذا، فإمكانية تكرار العرض في أماكن مختلفة ستكون متاحة وسهلة بالعناصر الحالية المختارة بعناية.

أما أعظم انتقالة من النص إلى العرض، فهي استبدال المخرج اللهجة البحرينية – التي لا تستخدم بشكل صحيح في جميع الأوقات – بنص مكتوب باللغة العربية الفصحى، كما يفضل الحايك دائماً في نصوصه. هذا أعطى روحاً جديدة للنص عن كونه فصحى، قارب المسافة والمعنى، رغم أن نصوص المؤلف تكتب بلغة عربية بسيطة، بعيدة عن التعقيد. لكن الألفة مع الحوارات، التي تؤكد أن هؤلاء هم أهلك وأقربائك والناس الذين تعرفهم، يؤكد على جمال الفكرة ويكرسها.

الفكرة الأساسية لعرض “التِّيه” هي الخنقة التي يحوط المتلقين به، لحدث بدأ قبل العرض، واستمر أثناءه، حتى يوصلنا إلى الذروة، ومن ثم الانفراجة التي – حتماً – لن تنتقل بعيداً عن “التِّيه”، سواء بنهاية النص الأصلي، أو بالرؤية الإخراجية التي اعتنى بها العرض لتكون متخيلة في ذهن كل متلقٍّ حسب تصوره. ولذلك، فإن فكرة التمرد هنا ليست فكرة شريرة، وترمي فقط إلى إسقاط ثوابت أن يكون النوخذة هو صاحب النصيب الأعظم للمال، بينما من يجنيه ويحضره هم غاصة أقرب ما يكونون للـ”سخرة”؛ حيث إن ما يتقاضونه في مهنة الموت هذه لا يتعدى عيش الكفاف، ويظلون في دائرة الديون حتى يورثوها لأبنائهم، مثلما يورث النوخذة قسوته وأنانيته واستحواذه على ثروة، حقيق أن يتقاسمها مع بحارته. ولكي لا تبقى الحياة بين مفترقين إجباريين: الحياة في عوز، أم الغنى في الموت، كما كان خيار عمران في رحلة تيهه!

1 تعليق

  1. مقالات الكاتبة والناقدة البحرينية ، الست زهراء المنصور ، ترتقي للدرس لصاحب الاختصاص والمتعة المعرفية للمهتم , مقال رائع جدا يجعل من القارئ حاضرا وعارفاً بدقائق العرض المسرحي

Comments are closed.