القهوة والمقاهي الشعبية

0
61

تباينت المصادر والمراجع في الاتفاق على المكان الأول أو الرئيس للقهوة، فهل كانت بيئتها الأولى اليمن، أو أثيوبيا، ولكن الذي كان يتناقل بين الناس عمومًا أن رجل الأغنام هو أول من اكتشف حبوب القهوة، حينما رأى أغنامه دائمة الحركة والاستيقاظ لفترة طويلة، وبمعرفته هذه التي أوصلها إلى رجل الدين في حيه، وما قام به هذا الرجل من طحن هذه الحبوب ووضعها في ماء مغلي، حتى بدأت تنتشر تدريجيًا من مكان لآخر بدءًا من المعابد وبين رجالها حتى وصلت إلى عامة الناس، ولكن كما جاء في بعض المصادر بأن القهوة (البن) ومكانها وحضورها في التراث العربي والإسلامي تؤكد أهمية القهوة، مثلما هي حكاية القوم الذين أصيبوا بمرض، ويقال أن جبريل أمر النبي سليمان أن يأخذ هذا البن من اليمن ثم يغليه بماء ويقدمه لهذا القوم، وأشار سعيد السريحي في كتابه غواية الاسم – سيرة القهوة وخطاب التحريم، صفحة: 20، بأهمية القهوة حينما جاء جبريل بالبن إلى النبي محمد عليه أفضل صلى الله عليه واله وسلم بعد ما أصابه الهم والغم نتيجة عدم تصديق القوم لدعوته. 

أما الأسبقية ففيها اختلاف، حيث إن اكتشاف القهوة التي مصدرها أثيوبيا أو اليمن، إذ بين حامد علي باضاوي في كتابه النبذة السنية في القهوة البنية، صفحة:11-15، بأن هناك من يرجع اكتشافها إلى الصوفي علي بن عمر الشاذلي المتوفى سنة 828 هــ، الذي قام برحلة إلى أثيوبيا (الحبشة)، وهناك من يشير إلى أن المكتشف الثاني الفقيه محمد بن سعيد الذيحاني المتوفى سنة 875 هــ، الشيخ عبد الرحمن بن محمد العيدروس المتوفى سنة 914 هــ. كما يقال إن القهوة بدأت تظهر في شكل عرفه الناس، وبدأوا يتذوقون هذه الثمرة في شكل سائل ساخن، إذ بدأ ذلك من تركيا مع القرن الرابع عشر الميلادي. وأخذ يسمى بالقهوة التركية، واستمر بعد ذلك متنقلاً في الدول الأوروبية والعربية عامة، ليكون مشروبًا أساسيًا في حياة الناس اليومية سواء قدم في المنازل أم في المقاهي التي تشكلت وبنيت أمكنتها من أجلها، ومع الزمن والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية طرأ تغيير على نوع القهوة وطرائق إعدادها وآليات تقديمها، إذ لن تذهب أي مكان في العالم إلا وتجد المقاهي متناثرة على جانبي الشارع، وفي التنزهات والملاهي والأمكنة السياحية.

ويقال أيضًا أن للقهوة فوائد، فحبوبها مضادة للأكسدة، وتعمل على حسر انتشار المواد الضارة التي تسبب بعض الأمراض، مثل: السرطان والقلب والشرايين، وكذلك تعمل على زيادة حساسية الجسم للأنسولين فتسهم في تخفيض نسبة السكر في الدم، وتقي الكبد من التليف؛ لأنها تقلل من إنزيمات الكبد، وتسهم في خفض نسبة الإصابة بالجلطات الدماغية والنوبات الصدرية، وتحارب الشيخوخة، وغيرها من الإيجابيات والفوائد، وقال العلامة عمر بن سقاف بن محمد السقاف حينما أقبل عليه الساقي بالقهوة فأنشد قائلاً:

             قــد أقبـلــت وســوادهــا يتــوقــــــد           ومن العجائب أن يضيء الأسود

                 وسوادها ابيضت قلوب أولي النهى           بســوادهـــا ســاد الســواد ويحمد

وقال عمر بن علي الشاذلي:

قافها القوة والهاء الهدى               واوها الورد والهاء الهيـام

لا تلومني على شربي لها             إنها شربٌ لسادات كرام

وقال أبو بكر العيدروس هو في حالة سمر مع الشاذلي:

ودارت علينا للمعارف قهوة     يطوف بها من جوهر العقل خمار 

أما إذا وقفنا عند المقاهي، فالنظرة الدونية كانت هي السائدة قديمًا، على اعتبار يرونها مسرحًا للممارسات المنحرفة، أو محطّة لانتظار قطار الموت للذين فقدوا الآمال وأصبحوا مرضى بحكم السن، وكأنّ هذا المكان أنشئ للذين سئموا الحياة الاجتماعيّة. بل وصل الأمر وهذه الدلالة إلى اعتبار المقاهي مكانـاً يحمل بين طيّاته العيوب الأخلاقيّة، والجلوس فيه لا يليق بالناس المرموقين. ولكن في الاتجاه الآخر يراه المكان الذي يحتضن الناس على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم وطبقاتهم وتطلعاتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فالمقاهي هي الأمكنة التي تزيل الهموم وتدخل بعض البهجة على الناس، كما تسهم في إيجاد مناخ للحوارات والمناقشات المثمر، بين المثقفين والسياسيين والفنّانين سواء تلك المقاهي التي أنشئت في أوروبا، وتحديدًا في فرنسا، أم تلك التي أنشئت في العالم العربي، مثل مقاهي القاهرة.

تباين عدد من الفقهاء ورجال الدين حول حرمتها أو حليتها، واستمر ذلك الجدال بين مؤيد للحرمة، ومعارض لها حتى القرن الثامن عشر تقريبًا، إذ بيّن محمد م. الأرناؤوط، من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، صفحة:9، ما سميت بواقعة مكة ” حين ضبطت القهوة وهي تشرب في جوار الحرم، مما أدى إلى رفع محضر إلى العاصمة القاهرة يكشف عن عناصر الارتياب في تأثير هذا المشروب الجديد على الوسط المحلي ” ومن ضمن الأقوال التي تؤكد حرمتها ما أشار إليه عبدالقادر محمد الجزائري، عمدة الصفوة في حلّ القهوة، تحقيق: عبدالله محمد الحبشي، صفحة: ص39، ” فمن قائل بحرمتها، مفرط في ذمها، والتشنيع على شرابها، وبالغ في حرمتها فادعى أنها من الخمر المسكر، وقاسها به وساوى، وبعضهم نسب إليها الإضرار بالعقل والبدن، ومن قال بحلّها يرى أنها الشراب الطهور المبارك على أربابها، الموجبة للنشاط والإعانة على ذكر الله، وفعل العبادة لطلابها “. وقد أفتي الشيخ محمد البكري الصديقي المتوفى في العام 1585، كما أشار الأرناؤوط في صفحة: 19، بأن شربها حلال، ولا لبس فيه، إذ يقول فيها:

أقـول لمـن سـاق بالهـم صـــدره          وأصبـح من كثر التشاغل في فكر

عـليـك بشــرب الصالحيـن فإنـه          شـراب طهـور سامي الذكر والقدر

فمطبوخ قشر البن قد شاع ذكره         عليـك بـه تنجـو من الهـم في الصدر

وخـل ابن عبدالحـق يفتي برأيـه         وخذها بفتوى من أبي احسن البكري

أما الشهاب بن حجر فله رأي آخر يعيب فيه شرب القهوة، فيقول: شراب يتخذ من قشرة البن يسمى ذلك القهوة، وطال الاختلاف فيه، والحق أن ذاتها مباحة ما لم يقترن بها عارض يقتضي التحريم، حيث أشار جمال الدين القاسمي الدمشقي في رسالة في الشاي والهوة والدخان، صفحة:14، حول ذم القهوة والقهاوي إذ قال الشيخ محمد العلمي من خلال نظمه لأبيات في هذا الشأن:

                واحذر دخولك للقهوات إن بها          جل الفواحش مع كذب وغيبات

                كم قهوة أصبحت للهو جامعـة          وكم بلايـا بهـا لأهـل الديـانــات

               كمحنــة شغلتهــم عـن بيوتهم           وعـن صـلاة وأوراد وطاعـات

لا شك أن ارتياد المقاهي عند إنشائها تثير الارتياب، بل حتى مع بداية القرن العشرين وإلى منتصفه هناك من العائلات التي تمنع أبناءها من ارتياد هذه الأمكنة لعدة أسباب، منها على سبيل المثال عدم رغبة الأسر في اختلاط أبنائهم بالطبقات والفئات غير المنسجمة مع مستواها الاجتماعي، وربما أن على طاولات هذه المقاهي والأمكنة تدور أحاديث لا يرغب الأهل أن تدخل في آذان أبنائهم، وقد تكون النظرة الدونية لمن يرتاد مثل هذه الأمكنة نظرة دونية وفيها نوع من الازدراء، لذلك كانت المقاهي العربية عند تشكلها وانتشارها تختلف من حديث الارتياد والحضور عن المقاهي الأجنبية عامة.

وبناءً على هذا التغيير في المفهوم، وفي الخدمات التي تنوعت بين الشاي والقهوة والمشروبات الغازية والعصائر، ظهرت لهذه الأمكنة تسميات متعددة، وفي مواقع مختلفة على الأقل في العالم العربي، فهناك المقهى والقهوة والكازينو والحانة، كما تنوّعت مواقعه في الأمكنة الجغرافيّة، مع تنوّع الشكل الهندسي لمبنى هذا المقهى أو ذلك، كما تنوعت الفئات التي كانت ولاتزال تحرص على ارتيادها، كالكتاب والشعراء والسراد والنقاد، والصحفيين والفنانين التشكيليين والمصورين والسينمائيين، وبالمناسبة كان في منطقة الخليج تقدم مشروبات كثيرة، ومنها ما كان يطلق عليه (الشربت)، مثل: شواب الورد الممزوج بالحليب، وشراب اليمون، وشراب البرتقال، وشواب المانجو، بالإضافة إلى بعض الأكلات الشعبية الخفيفة التي تقدم عادة في الصباح، أما في المقاهي الحديثة فالأمر مختلف، فما يقدم من مشروبات ومأكولات لا تقدم في تلك المقاهي، حيث لديها المشروبات الساخنة والباردة (المثلجة) من القهوة، مثل: قهوة أمريكية، كابتشينو، كافي لاتيه، موكا، سبر يسو، وغيرها من الأسماء التي تظهر بين فترة وأخرى في ضوء التحديثات والتطويرات التي تقع على المشروبات.

في عصرنا الحديث، والواقع المعيش يؤكدان أن لأكثرنا نحن بني البشر الذين نعيش في المدن أو الأمكنة ذات الصبغة المدينية والمدنية، أن الكثير من أفرادها عامة يقطعون جزءًا من أيام أسبوعهم ليعطوه لهذه المقاهي، أي يذهبون إليها راغبين في قضاء وقت ممتع مع أنفسهم أو مع أصدقائهم، يقضون هذا الوقت في شرب المشروبات الساخنة أو الباردة، والبعض يفضل الشيشة (النارجيلة) صديقة له في هذه الجلسات، ويتجاذبون أطراف الحديث في موضوعات شتى، وتحديدًا في مجال اهتمامهم، وتخصصاتهم ومجالاتهم.

وربما تبادر للإنسان بين الحين والآخر سؤال يطرحه على نفسه أو على الأخرين، وهو لماذا نحن نرتاد المقاهي؟ وبين كامل مصطفى رحومة، المقاهي الثقافية في العالم – القاهرة، باريس، دمنهور، صفحة: 27-32، عدة أسباب لهذا الارتياد، بمعنى، هل لأن المقهى مكان للترويح والترفيه والمتع؟ هل لأن المقهى مكان لفعل الكسل والخمول والهروب من التحديات؟ هل لأنه مكن لأصحاب العقليات الخرافية التي تناجي حظها في الخوارق؟ هل لأن المقهى مكان للمنافع المادية العائدة عن ارتياده؟ هل لأنه مكان لراغبي الخصوصية؟ هل لأنه مكان لترسيخ العلاقات الاجتماعية؟ هل لأنه مكان التجمع الذي ينشد المرء دائمًا مصيره بعيدًا عن المؤسسات؟ هل لأنه مكان له دور نفسي للمرتاد؟ هل لأنه مكان يملك مستوى أكثر من الأمكنة الأخرى، فيما تخص الحريات ذات العلاقة بالتغيير؟ هل لأنه مكان يقوم بدور التوعية وإنتاج واستهلاك الثقافة وتلاقي الأفكار؟ هل لأنه مكان راصد للمجتمع وتغيراته؟

إن العلاقة بين المقهى باعتباره مكانًا، والإنسان باعتباره مرتادًا علاقة حميمة ونفعيّة في وقت واحد، لأنّ المرتاد كان حريصًا على الاحتفاظ بمقعد في هذا المكان، لاحتياجه المُلح إليه في غربته، أو في حزنه، أو في فترة يرغب في قضائها بعيدًا عن كل معكرات الحياة، وبهذا كأنّ المرتاد يؤكد على التشبث بهذا المكان والتمسك بوجود اللحظة، ومعايشة الذكريات، وإعادة الحكايات التي تلبسه الدفء والحنان، بمعنى آخر العلاقة بين الإنسان الذي بات المقهى ملازمًا لحياته ويومه ووقت فراغه، فهي علاقة نفعيته حميمة تظهر في التمسك به، والالتحام معه ، فالمرتاد يلامس التفاعل والتواصل، وعلى الرغم الابتعاد عن حدوده المنزلية، فإنّ فسحة المقهى وفضاءه يقدّمان لـه نوعًا من المعانقة، ففي هذه العلاقة مذاق الماضي وطعم الحاضر، كما أن هذه العلاقة تعطي بعدًا جماليًّا للمكان، والرغبة النشطة في الارتياد، والإحساس بالتماثل في تحريك الذكرى.

من هنا كان حرص أصحاب المقاهي القديمة والحديثة العربية على هندسة مكان المقهى بشكل جاذب للناس، وأن يضعوا على الجدران صور بعض الشخصيات التي حظيت بمكانة مرموقة في مجالها، كالأدباء والكتاب، أو المغنيين، أو الفنانين التشكيليين، أو الممثلين، أو صور بعض اللاعبين المشهورين عالميًا، وهذا جزء من عملية التسويق والإعلان، ويحرص المسئول عن إدارة المقهى أن يضفي على المكان الطابع القديم، مثل بعض الآلات الموسيقية، أو الآلة الطابعة، أو جهاز المذياع، أو بعض الأواني القديمة، أو بعض الملابس التي كانت ترتدى في العصور السابقة، أما المقاهي الحديثة الأجنبية لا تهتم بهذا الأمر بنفسها، بل توكل هذه المهمة إلى شركات متخصصة تعرف كيف تسوق لهذا المقهى أو ذلك، أو لهذا المنتج من المشروب  بالوسائل التي تراها ذات علاقة وصلة بذوق الزبـون، والتطلـع الثقافي العـام الذي يتواكـب والفئـات المعنية بحضورها لهذا المقهى أو ذاك.

وقد قال الأديب علاء أبو النجا: إن الحركة الأدبية في مصر بدأت من المقاهي، ولم تنطلق من المكاتب، أما الشاعر العراقي حسين مردان فيقول: المقاهي هي جامعات حقيقية للأدب والشعر. وهذا ما يؤكد أن المقاهي كانت مختبرًا للتجارب السياسية والفكرية والمدارس النقدية، ويمكن القول أن مقاهي صنعت أدباء، وأدباء صنعوا مقاهي، أما لو نظرنا إلى المقاهي الشعبية في منطقة الخليج فإن الغالب الأعم تدور الأحاديث بين المرتادين حول العمل والبحر والسوق والتجارة، أو الحكايات الشعبية، والتسلية ولعب بعض الألعاب الشعبية التي كانت منتشرة آنذاك. وهذا يعني أن الحديث عن المقاهي، فهو الحديث عن تاريخ المكان والبلد والحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والعاطفية.