في تلك المقبرة الواسعة بأم الحصم التي تقاطرعليها المشيعون، في ذلك اليوم من أيام الصيف اللاهبة، في الرابع والعشرين من يونيو 2024 اختلطت أصوات جموع المعزين المحتشدين بكثافة شديدة، في وداع أحمد الشملان المسجى برأسه المرفوع دوماً بجلال، وبنظراته الثاقبة.
هو ذا أحمد حتى وهو بعيد عن الحياة مسافة يوم واحد، لم يتغير كثيراً ولم يغير الموت ملامحه إلا ما يفرضه سلطان الحياة والعمر، ومع ذلك فإن كل من ألقى النظرة الأخيرة على جثمان أبي خالد شعر بفيض من الألم وبرغبة كبيرة في البكاء. أدركت حينها بأن هناك زوايا في حياة الإنسان يحتفظ بها دون غيره ولا يود البوح بها لأحد، حتى وهو في فراش الموت مسجى قبل الوداع الأخير. كيف أصبح الموت حقيقة تتحرك بيننا، أهي مفاجآت الحياة التي لا رادّ لها، إن الإنسان يجد نفسه داخل طاحونة شديدة القسوة، لا خيار له إلا المواجهة.
كانت الحياة بالنسبة لك، يا أحمد، سفرأً دائماً وصعباً وسط الصعاب، التي تحملت قسوتها، فأكلت من صحتك الكثير، كانت الحياة، بالنسبة لك، ومنذ البداية، مهمة جدّية يجب أن ينفذها المرء بدقّة وخطورة ويبدأ العمل الشاق، وفي أحلك الظروف وأصعبها كما فعلت، فتحمّلت كل الخسارات، الكبيرة منها والصغيرة، التي لا يحسّها إلا المتضرر منها. حتى السجن الطويل تحمّلته بإباء ورجولة وصبر وشجاعة، ودفعت في سبيل ذلك ثمناً غالياً، وأنت تتنقل من سجن إلى سجن آخر، وبين كل سجن وسجن سجون أخرى، وبين كل منفى وآخر لا تبتعد سوى المسافات، وكنت كأي بطل شجاع عندما يجد نفسه أمام حرب عليه أن يخوضها بعزيمة وثبات.
في ذلك المكان المجلّل بالسكينة والهدوء، وفي ذلك التابوت شكّل أحمد حاسة المكان ونبضه فأصبح سيد اللحظة دون منازع. كيف لا وهو الذي كان دوماً سيداً لم يهادن ولم يستنجد أحدًا، لا سلطة ولا سلطان، وفياً لأبعد الحدود لمبادئه، مخلصاً لرفاقه، جسوراً ومقداماً، لا يهاب الصعاب، حازماً وصارماً، لم ينحنِ في أي يوم من الأيام، وهو الإنسان المتفرع الأغصان، الذي يحتل مكانة لم يحتلها أحد، تمتد جذوره قوية متينة في تربته البحرينية، حتى ليخيّل إليك أن شيئاً في هذا العالم لا يمكن أن يزعزع ثباته الفكري الراسخ ولا يزحزح قوة إرادته الصلبة كروح بطولية رجولية العنفوان لم تكسرها الصدمات ولا الإخفاقات ولا الإنكسارات.
كم كنا نشتهي يا أحمد أن نوقف هذا النهر المتدفق بالحزن في دواخلنا عند هذا الحد لكننا لم نستطيع أمام رهبة الموت، وأمام قدرك الرفيع ومكانك المنيع وحياتك المليئة بالبطولات والتضحيات. كل العيون مصوبة نـحو الراقد في النعش بأبهة ووقار في صمت جنائزي زاد وجهه صفاء وبهاء والقلوب مثقلة بالحزن والأسى وبما لا تستطيع قوله في مثل هذه المناسبات سوى الحنق والغضب على من كان المتسبب في هذه الجلطات التي أصابت هذا الإنسان المرهف الإحساس لتقعده عن الكلام سنيين طوال.
كان يوماً مشؤوماً يا رفيقي، يوم السكتة الدماغيّة القاسية في العام 1996 التي كادت أن تسرقك منا، لولا عطف القدر، وبعدها ما لحقها من جلطات أخرى. في الزيارة التي ُسمح لنا بها قبل رحيلك بأسبوع رأيت وجهك الوضاء الذي لم يفقد ألقه أبداً وسمعت أنفاسك وهي تبحث عن مستقر لها. لم تكن منتظمة لكنها تحسنت بالقياس للبداية عندما كنت في العناية الفائقة، فكنا نمني أنفسنا أن تعود إلينا وأنت معافى ولكن لم يمهلك سلطان القدر المحتوم.
صور قديمة وأخرى حديثة، فيديوهات تُرسل دون توقف، كلها تحكي سيرة نضالك الشاق الطويل، تعبر عن محبة الناس وإخلاصهم لك والترحم عليك، والوفاء لذكراك والفخر بتضحياتك وأنت الذي كنت مثالاً يحتذي به الآخرون في المجالدة والصبر والأمل ونكران الذات والنبل والتسامح. ولتلك الخصال ولغيرها حضر في جنازتك أُناس من كل الطوائف والاتجاهات المختلفة، هذا التنوع الجميل احتفى بك كأنهم كانوا يعلمون بأنّ هذا هو مرادك، وحدّهم حضورك الطاغي والفيض الإنساني الذي تتمتع به، والمعنى الأخلاقي الذي أعطيته للحياة بفعل ما أنجزته من عطاء دون مقابل وبلا تردد، فالبطولات يصنعها من كانت قلوبهم مشرعة على حبّ الخير في أشدّ اللحظات تأزماً، فكنت مبادراً إلى كل ذلك مُلهماً للآخرين ومثالاً لهم في الصدق مع النفس دون مزايدات، بل بتواضع جم.
آثارك يا أحمد تنتصب أمام أعيننا ثرية وبوضوح جلي، مناضلًا من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان، وشاعراً وأديباً مرموقاً ومحامياً بارزاً ومعروفً بدفاعه عن كل من يحتاج إلى مساعدة قضائية، فكانت لك صولات وجولات في المحاكم دفاعاً عن المعتقليين السياسيين، وكانت معاركك في سبيل الحق والعدالة جلية واضحة لا لبس فيها، فكنت تجمع بين شجاعة الموقف وشجاعة الكلمة، ووقفت حياتك كلها على الدفاع عن القيم والمثل الإنسانية النبيلة، وتحضر في أذهاننا مؤلفاتك الشعرية (زنابق العشق، رائحة في الذاكرة، ملفات الجزيرة العاشقة، الأخضر الباقي) وكتاباتك (أجراس الأمل) بجزئيه، وأنت القائل في إحدى قصائدك بديوان: “ملفات الجزيرة العاشقة”: “لن ترى قافلة الصمت عويلك/ عاشق أنت ومثواك رحيلك/
ربما نظرتك العطشى/ ينابيع/ وواحات/ وأسراب فراشات/ تناجيها الحرائق/ ربما أنت ……/
ولكن/ من ترى يدري بهمسك؟”.
زاد ثقل الصمت على المكان ما أن تلاشت الكلمات الأخيرة، وبعد أن ودعنا أبا خالد إلى مثواه الأخير ونحن نجرّ أذيال الحزن واللوعة والأسى لنهايات كانت قاسية وصعبة على النفوس ولكن هي الحياة تمرّ بنا دون أن تلتفت إلى أحزاننا وفقداناتنا، وشعرنا حينها بحالة القفر التي تلف المكان وبالصمت الذي لا يُحتمل بعد أن غادر المعزون وتفرقوا جماعات وفرادى، ولكنك يا أحمد ستظل في قلوبنا رغم الغياب الجسدي فأنت الباقي بكل ما ملكت من محبين ومعجبين بقوتك وصمودك وطهارة روحك ونقاوة معدنك فقد أعطيتنا درساً في الكبرياء والتفاني، فلك الخلود يا أبا خالد رمز الوطنية والوفاء، ولزوجتك الوفية أم خالد ولولدك خالد وإبنتك سبيكة الصبر الجميل.