بقلم: ناتاليا ميلتشاكوفا*
ترجمة: عبد الجليل النعيمي
“الجبناء فقط هم من يسددون الديون” – هذا القول المأثور، الذي يُنسب تأليفه إلى مشاهير مختلفين، أصبح بالفعل من كلاسيكيات الفولكلور المالي وبورصة الأوراق المالية الروسية. وبالمناسبة، ففي الماضي كرر مسؤولون على مستوى عالٍ من دول مختلفة، وبجدية تامة، ما يعني المثل إياه.
وزير المالية الفرنسي في عهد الملك لويس الخامس عشر، جوزيف ماري تيري، اعتبر من الطبيعي تمامًا أن ترفض أي دولة مرة كل قرن سداد ديونها، ليس حتى لأنها غير قادرة على سدادها، بل لأن مصلحة الدولة تتطلب ذلك. كما دعا السياسي الألماني المعروف والمصرفي والاقتصادي كارل ديتزل الدول إلى العيش في ديون، لأن هذا يساهم في رفاهية الناس، دون التفكير كثيرًا في متى وكيف ستسدد الدولة هذه الديون. وقد أدى هذا الموقف إلى تخلف الدول عن السداد (أي رفضها سداد ديونها لأسباب مختلفة) الذي حدث في نهاية القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين. ويجدر أن نتذكر ذلك في يوم الذكرى الخامسة والعشرين لحدث مماثل وقع في روسيا.
واحدة من أسوأ حالات التخلف عن السداد في النصف الثاني من القرن العشرين حدثت في المكسيك في 20 أغسطس 1982 (أغسطس مرة أخرى!). أعلنت حكومة البلاد في ذلك اليوم أنه يستحيل سداد ديون خارجية يبلغ مجموعها 80 مليار دولار، وأضافت فيما بعد أن الدين العام المحلي الذي يعادل حوالي 20 مليار دولار لن يتم سداده أيضًا بسبب الانهيار في أسعار النفط. تذكر أنه بحلول بداية الثمانينيات من القرن العشرين، كانت ميزانية الدولة للمكسيك تعتمد على عائدات النفط بنسبة الربع تقريبًا. استغرقت إعادة هيكلة ديون المكسيك ما يقرب من ثماني سنوات. وحينها ابتكرت الولايات المتحدة ما سمي بـ “سندات برادي” – باسم السيناتور الأمريكي، الذي اقترح آلية خاصة لإصدار السندات بالدولار لتبادل الديون المستحقة على الدول النامية مقابل السندات الدولارية، التي استخدمتها المكسيك لأغراض إعادة هيكلة الديون المتبقية في عام 1990.
آخر عجز عن السداد في نهاية القرن العشرين هو العجز الروسي، والذي حدث في التسعينيات المضنية. في 17 أغسطس 1998، أعلنت حكومة الاتحاد الروسي استحالة سداد ديون محلية وخارجية يبلغ مجموعها 191.6 مليار دولار، بما في ذلك 50.6 مليار دولار من الديون المحلية على أذونات خزانة الدولة. في تسعينيات القرن الماضي، عاشت روسيا في الديون، واقترضت من صندوق النقد الدولي ومنظمات الائتمان الدولية، بالإضافة إلى ما لا نهاية له من عمليات إصدار السندات الحكومية وسداد الديون السابقة بأموال من بيع إصدارات السندات الجديدة. بعد ذلك أصبحت قدرة روسيا على العيش على مواردها الذاتية محدودة بسبب تراجع تحصيل الضرائب وتراجع الإنتاج من عام إلى آخر في جميع قطاعات الاقتصاد تقريبًا وأسعار النفط المنخفضة التي انهارت بحلول منتصف أغسطس 1998 بشكل عام إلى 12 دولارًا للبرميل – أي، إلى مستوى الأسعار في بداية القرن العشرين. تسبب العجز عن السداد في انخفاض حاد في قيمة الروبل وحدوث أزمة سياسية. لكن هذه الأحداث أدت في نهاية المطاف إلى تعيين يفغيني بريماكوف رئيسًا لحكومة الاتحاد الروسي وتغييرٍ كاملٍ في تكوين مجلس الوزراء، وبالتالي إلى تغيير جذري في النموذج الاقتصادي في روسيا.. أدى انهيار الروبل إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، مما خلق قوة دافعة لنمو الصناعة والزراعة الروسية، كما سمح بيع عائدات النقد الأجنبي للبلاد بزيادة احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية. وفي ربيع 1999 انضمت روسيا مؤقتًا إلى خفض إنتاج النفط مع دول أوبك (يلفت الاهتمام أن المكسيك والنرويج انضمتا إلى مبادرة أوبك في نفس الوقت)، تمت إزالة 4 ملايين برميل إضافية من النفط يوميًا من السوق، ما جعل من الممكن استعادة النمو السريع في أسعار “الذهب الأسود”، وعَوَّضت بلدان النفط والغاز إيراداتها المفقودة في الميزانية. خلال العام، تمكنت روسيا من إعادة هيكلة الديون غير المسددة سابقًا من خلال البورصة، بما في ذلك سندات اليوروبوندز بالدولار. لكن الدرس الأكثر أهمية هو أن الدولة لم تتوقف عن العيش في الديون فقط، بل وعن الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وبدأت في إصدار السندات وسندات اليوروبوندز فقط في حالة الضرورة القصوى.
حدث أول تخلف فاضح عن السداد في القرن الحادي والعشرين في أمريكا اللاتينية حين عجزت الأرجنتين حيال السندات الحكومية في عام 2001 بمبلغ يعادل 100 مليار دولار. كان سبب التخلف عن السداد هو الربط الفعلي لعملة البيزو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي من أجل رفع قيمة العملة الأرجنتينية المتدنية من سنة إلى أخرى. نتيجة لذلك، أصبحت البضائع من الأرجنتين غير قادرة على المنافسة في السوق العالمية، وانخفضت إيرادات الميزانية الحكومية للبلاد، الأمر الذي خدم سلطات البلاد كذريعة لرفض خدمة ديونها. رفضت الحكومة الأرجنتينية ربط البيزو بالدولار، لكن إعادة هيكلة الديون تمت بعد ذلك قرابة عقد من الزمان، وحتى في ذلك الوقت، تمكنت السلطات من إعادة هيكلة 92٪ فقط من الديون المستحقة سابقًا.. ومع ذلك، تعلمت الأرجنتين دروسًا غريبة للغاية من التخلف عن السداد الذي كلف البلاد غالياً في عام 2021، حيث رفضت ببساطة خدمة ديونها بسبب الظروف الخارجية غير المواتية في عامي 2014 و2020 (عام 2014 بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، وعام 2020 بسبب جائحة كورونا). الأرجنتين ليست أفقر دولة في أمريكا اللاتينية ولا في العالم. وفقًا لصندوق النقد الدولي، فهي تحتل المرتبة 71 عالميا من حيث مستوى معيشة السكان، متقدّمة حتى على دول البريكس مثل الصين والبرازيل في هذا المؤشر. وهي مُصدِّرٌ رئيسي للمنتجات الزراعية والمواد الغذائية، وهي من أكبر الدول المنتجة للنفط. ولهذا كانت تمتلك بشكل عام القدرة والموارد لإدارة ديونها بشكل أفضل.
في العام 2008، إثر الأزمة الاقتصادية العالمية، اتبعت الإكوادور مثال الأرجنتين، ورفضت دفع 30 مليار دولار من الديون لأن حكومة البلاد والرئيس رافائيل كوريا اعتبروا “سندات برادي” الأميركية التي تبادلت الحكومة السابقة السندات الحكومية مقابلها بالعملة الوطنية في عام 1999 لتكون عملة غير عادلة، وذلك لتجنب التخلف عن السداد. في وقت لاحق، عرضت السلطات الأكوادورية على الدائنين خطة لإعادة شراء السندات المستحقة على حساب أموال الميزانية، ولكن بسعر السوق فقط، وانهارت إلى حد أنه مقابل كل دولار يُستثمر في هذه السندات، لم يتلق كل دائن أكثر من 75 سنتًا. وفي عام 2020، رفضت السلطات الجديدة في الإكوادور، برئاسة رئيس البلاد لينين مورينو، سداد ديونها بسبب جائحة كورونا وانهيار أسعار النفط. لذا فإن المثال السلبي للموقف تجاه الدائنين شديد العدوى، على الأقل في أمريكا اللاتينية.
وفي 2010-2012، شهد الاتحاد الأوروبي حدوث عجز كبير. الحديث يجري عن عجز اليونان عن سداد ديونها، وهي واحدة من أكثر الدول مديونية في أوروبا والعالم بأسره. في عام 2010، أعلنت أثينا أنها غير قادرة على خدمة الديون البالغة 240 مليار دولار. ومنذ انضمامها إلى منطقة اليورو، عاشت اليونان بالفعل ولا تزال في الديون، ونتيجة لذلك، طالبت سلطاتها بمساعدة مالية من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بهدف الاستمرار في خدمة الديون. هذا، على الرغم من أن اليونان تجني أموالًا طائلة من السياحة والصادرات الزراعية، كما هيأت المفوضية الأوروبية أفضل الظروف داخل الاتحاد الأوروبي لتصدير الزيتون المحلي وزيت الزيتون وأنواع أخرى من المنتجات الزراعية، مع الحد من تصدير المنتجات المنافسة لبعض شركاء الاتحاد الأوروبي الآخرين ومنطقة اليورو، على سبيل المثال للبرتغال. من حيث المبدأ، كان لدى اليونان ولا يزال فرصة للتوقف عن الاقتراض بمبالغ ضخمة والبدء في العيش في حدود إمكانياتها، لكن هذا لم يحدث. حلَّت اليونان مشاكل ديونها من خلال الضخ المالي من الاتحاد الأوروبي، وفي الواقع – على حساب البلدان الأوروبية الأقل ديونًا ودافعي الضرائب فيها، خصوصا ألمانيا. ونتيجة لذلك، قدمت سلطات الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تنازلات لليونان، لأنها هددت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي إذا رفضت المساعدة. اليوم، يتذكر قلة من الناس أن المصطلح المعروف “Brexit”، والذي يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، جاء في الأصل من مصطلح “Grexit” الذي ظهر قبل ذلك بكثير، والذي كان يعني الخروج المزمع لليونان من الاتحاد الأوروبي، والذي لم يحدث في النهاية، لأن أثينا غُمِرت بالأموال، وهي في الحقيقة قروض، وبالتالي زيادة الدين الوطني للبلاد أكثر. والآن، يبلغ دينها العام 206٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ووفقًا لهذا المؤشر المثير للدهشة، تُعدُّ اليونان من بين الدول الخمس الأكثر مديونية في العالم.
*المحلل الرئيسي في Freedom Finance Global، والمصدر “موسكوفسكي كومسوموليتس” الروسية، 18.08.2023