إن حلم المعيشة في أمريكا ونبذ الشيوعية قد طرأ كحالة تاريخية على عقول الملايين من داخل وخارج أمريكا خاصة بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. لقد برز الدولار وغاب الجنيه الإسترليني.. اندحر هتلر والفاشية وبرزت البنوك والقروض في المجتمع الأمريكي وامريكا كقوة اقتصادية وثقافية أولى.
إن سيطرة الإعلام الأمريكي من خلال السينما والإذاعة والتلفزيون مسحت عقول الباحثين عن حياة أفضل بعد الحرب.. لقد صورت وسائل الإعلام أن العيش في أمريكا هو التحضر وسهولة العبور إلى الحقوق المدنية والمادية المعيشية واقتناء الكماليات والتكنلوجيا إنها أرض يختلط رئيسها بالعامة من الناس ويلوح لوسائل الإعلام ويتحول بفعل النظام (الديمقراطي) إلى رئيس شعبي بسيط يتناول الهمبرجر في المطاعم ويستضيف رواد الفضاء ويزور الجنود في مواقع الحروب الخارجية لأمريكا ليهنئهم على شجاعتهم ووطنيتهم في بلاد الآخرين كما أنه يقضي ساعات مشاركا في حفلات هوليوود، يمزح يطلق النكات ويراقص الحسناوات، يعيش الحلم الأمريكي بتفاصيله، حلم يراود كل البسطاء والكادحين في العالم .
إنه (الحلم الأمريكي) كما أسموه.. فإن عشته.. فأنت متحول تلقائيا إلى كاوبوي قوي شهم يقدر رفاقه ولا يهاب الموت ولا الحروب تتبعك معجبات كثر يتركن أهاليهن ويهربن معك في سيارة فارهة سريعة ..
في فيلم (مهرج و”ليس المهرج” لأن الفيلم لا يصف حالة شخصية بل ظاهرة نفسية ومادية وحقوقية لمجاميع من المخدوعين بالحلم الأمريكي) يأخذنا الكاتبين (سكوت سيلفر والمخرج تود فيليبس مع الممثل خواكين فينيكس) في رحلة استكشاف نفسية تكشف ما يحدث في هذا (الحلم الأمريكي) من صراعات وحرمان و زيف إعلامي وحقوقي وعنف وجريمة يكون ضحيتها أمثال الشخصية الرئيسة في الفيلم (آرثر) الاسم القديم الذي اختاره كاتبي النص كرمز لاستمرار الظاهرة منذ عقود، كما أن المدينة مكان الأحداث هي (غوثام) وهو اسم مستعار لمدينة نيويورك عاصمة الولايات المتحدة السياسية حيث تختلط كل الأجناس (متروبوليتان) وتعمّد الكاتب اختيارها كما يبدو ليبرز أن الكذبة من خلق النظام .
يبدأ الفيلم بمشهد عن سير القطارات في المدينة كرمز للحياة الصاخبة الحديثة ثم يقطع المخرج على مشهد (آرثر) وهو جالس قرب النافذة ناظرا ًإلى الخارج غائصاً في تفكير عميق قاصداً من إبراز هذه الشخصية في اولى المشاهد هو ربط المشاهد بها مبكراً. وفي مشهد يتبعه يقطع المخرج على (آرثر) وهو يلاعب طفلاً أسود فيضحك الطفل ولكن أمه الجالسة بقربه لا تحب هذا الغريب الأبيض فتنهره ليتوقف.. فيعتذر (المهرج) متأثراً ولكنه يظهر للمرأة بطاقة مكتوب فيها أنه مصاب بداء نادر وهو الضحك بلا سبب وفي الحقيقة فإن هذا المشهد يحسس المشاهد بأن هذا الرجل في حالة إحباط شديد وقد أغلقت عليه جميع السبل للتصالح مع المجتمع بمن فيهم المتظلمين على الدوام من السود فهم لا يريدون أي اتصال بأناس مثله.
ثم يأخذنا المخرج إلى داخل المدينة ليعرفنا على الأجواء القذرة التي يعيش فيها (المهرج) فنرى أكياس القمامة وقد تكدست وانتشرت في جميع أروقتها وأحيائها بسبب إضراب عمال النظافة والمشاهد باللون الرمادي بلا أشعة شمس لتوحي المشاهد بالحياة الرتيبة للناس والبشر المتفرقين في الشارع في أجواء برد قارس، ثم ينتقل المخرج إلى مشاهد أخرى قصيرة الحوار من حياة (المهرج) ليبين تفاصيل حياته الشخصية فالأخصائية الاجتماعية السوداء وهي تسأله عن حالته بكل برود وملل فيرد عليها بكل هدوء وهو يدخن في لحظة تدارك شخصية لحالته الميؤوس منها بأنها لن تفهم قط بأن رأسه مليء بالأفكار السوداوية والإحباط، إنه مشهد يجسد سقوط الاعتقاد (بالحلم الأمريكي) من قبل السود والبيض على السواء .
يأخذنا الفيلم إلى تفاصيل حياة (آرثر) اليومية فهي سلسلة من المحاولات الفاشلة في العمل والتعامل مع الناس والتنمر عليه من قبل المراهقين وزملاؤه كونه في حالة نفسية صعبة لتصل به الحال إلى اليأس الكامل من ظروف سكنه وعمله والمحيطين به ولا تبقى له إلا والدته التي يرعاها ويسكن معها ويلبي حاجاتها الشخصية ويحافظ على نظافتها مؤمناً بان هي الوحيدة التي تحبه فتشجعه العاطفة للبحث عن مصدر عيش جديد يريد من خلاله أن يقوم بواجباته نحوها فتلين شخصيته قليلاً لتأخذ راحة نفسية من الضغوطات المحيطة به فتراه يتخيل وقد بدأ علاقة عاطفية مع جارته السوداء وأنها تستقبله في الأحضان حين يرجع إلى المنزل فيجلس في استراحة قصيرة منتشياً بالسيجارة ومشاهدة التلفزيون وهو غائص في الخيال العاطفي الذي سيطر عليه بالكامل ولكن بعد لحظات ينقشع الخيال لتدخل الجارة السوداء مع طفلها وتسأله كيف دخل إلى شقتها وحين يلتفت إليها ولا يجد الترحيب ويراها خائفة على طفلها يفهم الإشارة ويخرج منكس الرأس ليدخل في حالة توتر جديدة، هذه الحالة التي تجعله يدخل حالة العنف اللاإرادي فيبدأ بقتل كل من ينتقده أو يهزأ به مبتدأً من داخل شقته حيث يقتل أحد زواره ثم ينتقل إلى خارج شقته ليكمل جرائمه وهنا يريد المخرج أن يبين بأن اليائسين من الحلم الأمريكي يلجؤون إلى عالم العنف والجريمة والإرهاب لتحقيق ما عجزوا عنه سلميا لتصبح أمريكا البلد الأكثر عنفا على الخريطة وخاصة بجرائم قتل الأطفال وطلبة المدارس والجامعات .
و تبدأ مشاهد العنف بالتكرار بعد أن اتخذ (المهرج) العنف سبيلاً للاحتجاج والانتقام ويكتشف المهرج أن أمه المريضة ليست أمه الحقيقية فقد كذبت عليه وأن اباه هو أحد الأغنياء التي عملت عنده أمه ودخل في علاقة معها فيذهب إلى قسم الملفات في المستشفى ويتعرف على الحقائق وتكون أمه أولى الضحايا فيخنقها وتموت ليبين لنا المخرج بأن الرجل لم يعد يؤمن بالنظام أو وطنه ثم يتوجه إلى منزل الغني المفروض أن يكون اباه ويرفض الحارس دخوله ثم يقابل نفس الرجل في حمام الفندق فيرفضه الرجل قائلا له بان أمه مجنونة وأنه ليس اباه فينفجر المهرج ضحكاً وكأنه يقول (شر البلية ما يضحك) وهنا يضربه الرجل ويهينه . موجة العنف تأخذ بعداً كبيراً بعد هذا المشهد فيجري المهرج ويتبعه شرطيان فيقتلهما ثم يقتل المذيع التلفزيوني الذي هزأ به أمام المشاهدين ومن بعد ذلك يستقل القطار ويقطع شوارع المدينة وفي القطار يضربه موظفان أنيقان يعملان في البورصة محتقرينه بالكامل فيرد عليهما اللكمات بقتلهما بالرصاص وكأنه قتل طبقة الأغنياء كلها. تتوالى أحداث الفيلم ويتجمع الناس في الشوارع ومحطات القطار والساحات هاتفين رافضين للنظام يجمعهم كلهم لبس قناع المهرج، إذ انهم اكتشفوا زيف الحلم الأمريكي وبدأوا بالعنف المضاد وحرق سيارات الشرطة رمز سيطرة النظام ويتجول بينهم (المهرج) فرحاً منتشياً بحب الجماهير المشاركة.
تنتهي أحداث الفيلم باعتقال المهرج وإدخاله مستشفى الأمراض العقلية وهو رمز مراجعة النظام لنفسه كما أنه يترك غرفة العلاج وآثار أقدامه الحمراء على الارض البيضاء رمزاً لبدأ العنف في داخل أمريكا ورفض حلول النظام واخيراً فإن كل ساعة حائط أو مكتب تظهر في مشاهد مختلفة في الفيلم تشير إلى الساعة 11 و11 دقيقة أي نفس التوقيت وربما تكون رمزاً إلى أن المحنة ماتزال مستمرة.