إذا اجتمعت قصّة استثنائية عن حياة لم تكن عادية، مع لغة ساحرة بشاعريتها وجملها التي ستصبح مقولات أشبه بالحِكم. فالناتج عن ذلك سيرة روائية ممتعة حدّ الدهشة. تشد قارئها بتفاصيلها المشغولة بأنامل متمرّسة تعرف كيف تبقي شعلة التشويق متقدة إلى آخر كلمة، وتجعله يحاول التكهّن أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ الخيال، وهل ما بين يدي القارئ سيرة تلخص حياة صاحبها، أو رواية متخيّلة أقنعتنا كاتبتها أنها ابنة الواقع.
هذا ما فاجأتْ به الروائية الجزائرية «أحلام مستغانمي» قرّاءها بعد طول انتظار في «أصبحتُ أنتَ» الصادرة عن دار نوفل ببيروت. فلم تكتب صاحبة «ذاكرة الجسد» هذه المرة رواية عمودها الفقري الحب، ولا حتى عادت إلى شغفها الأول الشعر الذي صاحبته وهي صغيرة. بل كتبت سيرة روائية كما جاء على غلاف الكتاب. تناولت مثلّثا تُمثّل الكاتبة ووالدها وبلدها أضلاعَه الثلاثة. وعبر حكاية رجل من زمن آخر أشبعت أحلام مستغانمي فضول قاعدة قرائها الكبيرة بما لم يكونوا يعرفونه عنها، وأرَّخت لنفسها بالتوازي مع قصة والدها من بداياتها إلى وفاته التي تزامنت مع صدور «ذاكرة الجسد» الرواية التي صنعت مجدها الأدبي سنة 1992.
هي حكاية أحد مجاهدي الثورة الجزائرية -التي أدهشت العالم في منتصف القرن الماضي ببطولاتها وتضحياتها- يدعى «محمد الشريف مستغانمي» أرادت ابنته أن ترد له الاعتبار بعد أن أوصله صراع الإخوة بعد نجاح الثورة إلى حافة الجنون، فدخل مستشفى الأمراض العقلية، لأنّ الحلم الذي ضحى لأجله بأجمل سنوات عمره نفياً وتشرّداً وسجناً وفقداً للأحبة رآه يتكسّر على واقع مناقض لكلّ ما كان يأمله. وأرادت الإبنة أيضا أن تردّ له الفضل في كل نجاحاتها، بل رأت نفسها نسخة منه طبق الأصل، صرحت بذلك علانية في عنوان الكتاب «أصبحت أنت»، ولعل أكثر ما حزّ في نفسها أن والدها لن يستطيع قراءة ما كتبته عنه، وذكرت حسرتها هذه في أول جملة من كتابها حين قالت «ما جدوى ما أكتبُ ما دام ليس في المقابر مكتباتٌ ليقرأني أبي».
تروي «أحلام مستغانمي» في سيرة والدها أو سيرتها أو حتى سيرة وطنها لا فرق، الحكاية من بعد انتصار الثورة الجزائرية وانتقالها مع أسرتها إلى السكن في العاصمة في شقة مستأجرة في بناية قرب قصر الحكومة حيث كان يعمل والدها. وترسم بدقة لوحة للأماكن المحيطة ببيتها الجديد، وتحكي سيرة ساكنيه الفرنسيين الذي استعجلهم استقلال الجزائر على الرحيل. ومن خلال نماذج من جيرانها وهي نماذج نسائية نرى التناقض في تقبّل فكرة خروج الجزائر من عباءة الاستعمار الفرنسي، وما انتاب هؤلاء النساء من مشاعر الخوف حيناً والحقد حيناً آخر، ولكنهن في الأخير لا يملكن سوى الرحيل لأن أصحاب الأرض استردوا حقوقهم، وإن كانوا فوضويين أو لم تهذبهم الحضارة فحتى هذه الصفات المستبشعة وليدة ليل الاستعمار الطويل، فهم في الأخير «خريجو جبال لم يجلسوا منذ قرن على كرسي».
هذه السيرة الروائية هي حكاية «الطموحات المحبطة» -كما عنْوَنَ ألبرتو مورافيا إحدى رواياته- وما تفعله بأصحابها. فحين يعطي رجل حياته لقضية حالما بغد أفضل، ثم يجد أن رفاق الدرب يتقاتلون على توزيع المغانم، ويلطّخون بياض الثورة بسواد المطامع، لا يبقى أمامه إلا سبيلان: أن يلامس الجنون أو يغتاله الذين انحرفوا بالثورة عن مسارها، وهذا ما تعرّض له والد الكاتبة من محاولة اغتيال أوصلته إلى مستشفى الأمراض العقلية، ليترك عائلة تعتمد في معيشتها -بعد أن أوقِف راتبه- على مكنة خياطة الأم وعلى موهبة فتاة مراهقة تقدم برنامجاً شعرياً ليلياً أكسبها شهرة دفعت ثمنها غاليا في مجتمع ذكوري محافظ.
ولم يعان الأب وحده من جزائر ما بعد الاستقلال فابنته التي كانت ضمن أول دفعة معرّبة في المدرسة الجزائرية عانت أيضا، فوالدها الذي أراد لها أن تحقق ما لم يستطع تحقيقه هو من إتقان اللغة العربية كما كان يتقن الفرنسية ويحفظ قصائد شعرائها، وحماها مرارا ودافع عن حقها في الكتابة ورعى موهبتها واعتزّ بها، لم يكن يعلم أن ابنته دفعت ثمن ذلك حيث تسببت شهرة برنامجها الإذاعي في طردها في آخر فصل دراسي من البكالوريا نتيجة حقد مديرة أكلتها الغيرة من نجاح تلميذتها. واعتُبر وجودها غير مرغوب فيه في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب المنعقد في الجزائر، لأن دينصورات الثقافة المكرسة آنذاك استكثروا على شابة صغيرة أن تصدر ديوانا وتقدم برنامجا وتكتب في الصحف. لتكتمل دائرة العقبات برفض قسم اللغة العربية بكلية الآداب أن تتابع دراستها العليا مما أوقد نار التحدّي بين جوانحها، فسافرت إلى فرنسا ونالت دكتوراه في علم الاجتماع بإشراف وتقديم المستشرق الكبير ومترجم القرآن إلى الفرنسية «جاك بيرك».
تفاصيل الكتاب كثيرة نتعرف من خلالها على «أحلام» الطفلة والمراهقة والطالبة والعاشقة وبدايات كتاباتها. في زمن كانت الأحلام فيه أكبر من الواقع وفي بلد يرى النور بعد قرن وثلث من ظلمة الاحتلال، ويستفيق على صوت عبد الناصر وأغاني عبد الحليم التي أولعت بها أحلام مثل بنات جيلها، وترافَق ذلك مع أول حبّ في حياتها لأستاذها المصري للغة العربية، وهو فصل أجادت ربطه مع أغاني عبد الحليم ومشاعر الحب الأول وأوهامه. وكشفت فيه عن قدرة فائقة على الكتابة الساخرة لم تظهر من قبل في رواياتها. فرغم الحكايات المؤلمة التي حفل بها الكتاب عن رجل أقامه حبه لوطنه على تخوم الجنون، لا تخلو هذه السيرة من طرافة بعض قصصها كالببغاء الذي كان أول عاشق لأحلام والذي نالت بسببه علقة من جدتها.
وهناك أيضا الفصول التي أنسنت فيها الأشياء مثل المقاطع المطولة التي كتبتها عن الحَمام الذي كان يستوطن حديقة الساعة المجاورة لشقتهم التي اقترحت فيها «على المخابرات العربيَّة أن تتحالف مع الحمام، فهو أخطر من عصافير تويتر المغرِّدة التي تتجسَّس عليها، وهو قادرٌ على سماع أصواتٍ منخفضةٍ لا يمكن للبشر سماعها»، أو الفصل الذي تحدّثت فيه عن الحقائب، وربطت الحميمي بالوطني حين تعرضت لمن عرفوا ب«حاملي الحقائب»، وهم المثقفون الفرنسيون الذين تعاطفوا مع الثوار الجزائريين وساعدوهم وتحملوا لأجل ذلك السجن. دون أن نغفل مقاطع تجمع بين الطرافة والنظرة الفلسفية حين تتحدث عن عشقها لحلويات الميل فوي (الألف ورقة)، وهو ولع امتد من طفولتها إلى دراستها في فرنسا حيث كانت توصي أخاها أن يجلبها لها من الجزائر، وما ذكرته عن فلسفة الحلو بلسان أبيها «إن أردنا أن نحتفظ بالمذاق الحلو علينا ألّا نشرب، وهذا مستحيل… كل ما هو حلو يليه الندم، لأنه لا يبقى في الفم».
تجيد «أحلام مستغانمي» أسر قارئها بسرد متماسك مطعّم باستشهادات مختارة بعناية لرسول حمزاتوف ومالك حداد ونزار قباني وغيرهم. وبجمل تعوّدها القارئ منها تصلح أن تكون حِكَما يُستشهد بها، يتناقلها القرّاء كأنها معالم على خريطة الحياة، من ذلك تفسيرها للرائحة بأنها « اعتذار عطر لم يحضر فناب عنه حضن غير مرئي يُشم»، أو «الكتابة إعادة تدوير للخسارات» وعشرات من أمثال هذه المقولات التي ستجد لا محالة طريقها بيسر عبر التغريدات في وسائل التواصل الاجتماعي.
تختم أحلام سيرتها الروائية برسائل حب أرسلها والدها إلى حبيبة يوغسلافية عاش معها قصة حبّ وأدتها ظروفه وزوجته، ولا ندري هل كتبها الوالد بأسلوبه وقد كان يكتب الشعر بالفرنسية، أم صاغتها أحلام بحرفيّتها على لسانه. أعقبتها بخاتمة وجدانية أعادتها بعد سنوات إلى حيّها القديم مستحضرة خالد بطل روايتها «ذاكرة الجسد» في تماهٍ يصل حد التطابق مع والدها الذي كتبت سيرته وسيرتها عبره، فهما الاثنان ليسا سوى «يتامى الحبّ وحرّاس الأوهام».