ما الذي أريد! هل أطمح في أن يتحقق العدل فعلاً وحقيقةً في العالم من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه؟ ثم ما العدل؟ أمِن العدل أن يتحقق السلام والرخاء في العالمِ كُله؟ بالنسبة لي ومن خلال التجارب التاريخية والبحث والأحداث التي مرت حسمت أمر هذه التساؤل منذ زمن، أن يتحقق العدل في العالم كله هو حلم أو بالأحرى وهمٌ طوباوي لذيذ نتمناه ولا يحدث. جميلٌ هو التمني أخفُّ من الإرادة وأكثر رشاقةً من الحقيقة، يجعلنا نتمسك بفكرةِ أن المستحيل ممكن.
في صباح يوم السبت المجيد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 شنّت المقاومة في غزة هجوماً مباغتاً على قوات الاحتلال ما كبد الاحتلال خسائر جسيمة جداً، كسرت غرور المحتل ومرغّت أنفه في التراب. جن جنون العدو وصب جامّ حقده على المدنيين المحاصرين في قطاع غزة، لتنقل وسائل الإعلام بعدها مقاطع توثق بشاعة الاحتلال ومجازره المروّعة، أشلاء أطفال ممزقة، أحياء مهدمة بكاملها، قتل، تجويع، تهجير…دمٌ يسيل في كل أرجاء القِطاع.
كنت أتردد في القبول بفكرة تحقق العدل في هذا العالم، أحاول إعادة القراءة مرةً وأخرى والملاحظة والمقارنة بين الوقع والفكرة. أما اليوم فقد صرت واثقاً الى حدٍ كبير من أن العدل في العالم لن يتحقق بالشكل الذي نتخيله، فالعدل ـ إن صح التعبيرـ سيظل نسبي وفقاً لطبيعة البشر التي تتقلب بين الخير والشر والتضارب الحاد والمتفاوت بين المفاهيم الإنسانية والأيديولوجيات الخلاصية.
فلننظر قليلاً الى الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) ودوله الديموقراطية التي تنادي بالحرية على الدوام وتتبجح بالدفاع عن حقوق الإنسان والحقوق والمساواة والعدالة، تجدها اليوم تدعم وتساند العدوان على غزة بكامل أدواتها التكنلوجية والإعلامية وقوتها الاقتصادية، تستطف بكامل ثقلها ضد حقوق الإنسان ضد الذين يتعرضون للإبادة والتنكيل على مدار الساعة. إن الغرب لايزال مهجوساً بعقدة الرجل الأبيض الى اليوم وحتى إشعار آخر، يخبئ عنصريته ووحشيته خلف شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والالتزام بالقانون الدولي بينما هو بكل دوله ـ وعلى رأسهم أمريكا ـ أبعد ما يكون عن الإنسانية في تعامله مع الشعوب الأخرى. على الرغم من المدنية الغربية ومستوى التحضر والحرية الذي وصلوا إليه إلا أنهم وفي قرارة أنفسهم ولا شعورهم الجمعي مؤمنون بأنهم شعب الله المختار والعِرق الأسمى والإنسان الأعلى هم البشر وما عداهم مجرد كائنات حية أشبه بالبشر بل حيوانات في الكثير من المواضع، ذلك ما يعكسه سلوكهم في التعامل مع القضايا الإنسانية هنا وهناك وتصريحاتهم وإعلامهم.
يحاول الإعلام الغربي اليوم في ظل الحرب على غزة تشويه صوة العرب ـ وهي حرب عمد الغرب على شنها ضد الهُويات المختلفة عنه منذ سنين ـ والفلسطينيين على الخصوص والترويج للسردية الصهيونية على الدوام، لم لا فهي صنيعتهم، في المقابل يحاول إعلامهم جاهداً إلغاء الهوية والحق الفلسطيني وتجاوزه، لا مبادئ أخلاقية ولا حقوق إنسان هنا كل ما هنالك إلغاء وسُخرية. دأبَ الغرب على إظهار الفلسطينيين بأنهم مجتمع بدوي وأنهم برابرة وحشيون متخلفون، بينما البرابرة في واقع الأمر هم من الغُزاة الساديون الذين يرتكبون المجازر في الليل وفي وضح النهار وهم يتضاحكون، يقتلون الأطفال بدم بارد ويهجرون المدنيين العزل الآن وفي كل وقت في انتهاك صارخ للقيم الأخلاقية والقوانين الدولية والإنسانية، مع ذلك لا نجد الإعلام الغربي والدول الديموقراطية تدين تلك الجرائم بل تباركها وتطالب الكيان الصهيوني بالمزيد، مثلما طالب الرئيس الفرنسي الكيان الصهيوني بالشدة والقسوة في التعامل مع غزة.
إذا كنتُ قد تبنيتُ فكرة استحالة تحقق العدل في هذا العالم ونظامه المقيت، إلا أنني متمسكٌ بأن ظهور الحقيقة وتجليها ممكنٌ جداً. منذ 75 عام على قيام دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني يعاني من مجازر الإبادة الجماعية والفصل العنصري والتهجير والاستبداد والتنكيل والقهر والإذلال والحصار، ورغم تواطؤ معظم دول العالم مع المحتل لإخفاء الحقيقة والالتفاف عليها وتغيير شكلها، والحقيقة تأبى إلا أن تظهر ناصعة ساطعة مثل الشمس في وضح النهار تتسرب من خلفهم ومن بين أيديهم ومن فوق رؤوسهم. من يمكنه اليوم إخفاء ما يرتكبه الاحتلال من مجازر؟
إن دفاع الفلسطينيين عن أنفسهم في ظل تخاذل العالم حقٌ مشروع ومن يرى الحقيقة بكلتا عينيه ومن يرفع من منسوب إنسانيته يعي ذلك. إن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية دينية أو عِرقية أو قومية، هي القضية الأخلاقية الكبرى في زمان الناس هذا والتي لا يستطيع أي إنسان حر تجاوزها، تماماً كما قال تشي جيفارا: “إن مقاومة الظلم لا يحددها عِرق أو دين أو مذهب، بل تحددها طبيعة النفس البشرية التي تأبى الاستعباد وتسعى للحرية”. وفي ظل الانحدار الأخلاقي الكبير للعالم تقول المنظومة الغربية أن من حق الكيان الصهيوني الغاصب بآلته الإجرامية الدفاع عن نفسه! كيف لقوة غاشمة مدججة بكل الأسلحة المتطورة أن تدافع عن نفسها من مقاومة صغيرة تحاول استرداد أرضها وحقها، وناسٌ محاصرون بالكامل في سجنٍ هو الأكبر في العالم، في المقابل لا يحق للمقاومة الدفاع عن نفسها وكرامتها وبقاء شعبها الأصيل في هذه الأرض منذ آلاف السنين! أي نظام عالمي هذا وأي قيم أخلاقية هذه! الحق حق واضح ظاهر شاء العالم أو أبى.
لا يجوز منطقياً التعاطف مع السفاح والضحية في الوقت نفسه وإلا وقعنا في خطأ اجتماع النقيضين. شهامة وصمود وعنفوان الفلسطيني يعري زيف ادعاءات الغرب والشرق والعالم القميء بأسره ويُظهر الحقيقة دائماً، توقه الدائم للحرية تمسّكه بأرضه بجذع زيتونة تُظهر الحقيقة دائماً أمام أعين العالم الآن ظهرت حقيقة القضية الفلسطينية في الغرب صدقها الكثير من شعوبهم رغم كذب السلطة الإعلامية وادعاءاتها الباطلة وهي ضربة موجعة أخرى في جسد الكيان المهترئ، وهو اليوم ينهار وينتهي وجوده كفكرة أكثر من أي وقت مضى….