بيتنا ليس للبيع!

0
21

بأم عيني 1948

قالت له عبلة، صديقته: “بنرتّبها”!

أحداث حقيقية خاضها غنام صابر غنام، وأقصد أن أجعل من لفظة “خوض” التي تتسق مع قوة مفردة “بأم عيني” التي اختارها عنواناً لعرضه/ لمغامرته، بوَحي من عنوان كتاب للمحامية الإسرائيلية فلتيسيا لانجر “with my own eyes, between fact and fiction”  التي أوردت فيه بعض مظلومية الفلسطينيين في محاكم الكيان، وأراد هو أن يكون شاهد عيان يسرد أحداثاً وشخصيات حقيقية. ومن أقدر من الفلسطيني على تجسيد ما لا نراه على أرضنا هناك؟

أعلن هو، بعد العرض المسرحي لـ”سأموت في المنفى” مع الطلبة في جامعة داخل فلسطين، أنه سيعود مباشرة لوطنه -بدل فاقد- الأردن، الذي يحمل جنسيته، كما هو حال فلسطينيين كثر هناك؛ بينما -في الواقع- رتبت له تلك العبلة كل تفاصيل الرحلة التي عاشها المتلقي في مكان العرض، وعن بعد، كما فعلت أنا عندما قررت الكتابة الآن، وهو ما يخالف الأمانة النقدية للمسرح تحديداً، في الكتابة عن عرض مشاهد عبر وسائط، رغم أن الكتابة هنا “إحيائية”؛ تهدف إلى مساندة القوة الناعمة في الفن والمسرح خصوصا، وإن كانت هذه التكنولوجيا قد سهلت المشاهدة لعروض من كل العالم، إلا أن من الخطورة الحكم على عروض المسرح من دون حضور مباشر؛ نظراً لما تحتويه من حيوية، وحياة، وتكوين، لا يمكن أن تلقطه كاميرات الفيديو بسهولة، مهما بلغت دقتها، ولا يمكن بالتأكيد التقاط شعور الممثلين، ولا تأثير عناصر السينوغرافيا عليهم.

لكن ما يمكن للكاميرا رصده، ولو جزئياً، هو ردة فعل الحضور الذين يشاهدون العرض على الأغلب لأول مرة، وكما شهدته بنفسي في العرض الأول لـ”سأموت في المنفى” على هامش إحدى دورات مهرجان خالد بن حمد للمسرح الشبابي، وبعدها في جامعة القاهرة، ثم في شرم الشيخ، هكذا بدون تخطيط مني. كيف كانت الحيوية قبل حضور العرض؟ وكيف ظهر الجمهور الذي لم يغيبه إظلام أو إيهام أنهم داخل العرض، ثم التأثر الذي مازج بين التصفيق الشديد، والوجوم الممتزج بدموع بعضها ظهر وبعضها تحجر لعمق الغصة؟ ليست قضيتك وحدك يا غنام.

والأمر الآخر أن عرض “بأم عيني”، المستكمل لمسرحيته الأولى، لا يخضع للشروط الأخرى التي يخضع لها أي عرض مسرحي؛ لأنها ببساطة مختلفة عن السائد، وتكاد تحمل منهجية تخص غنام وحده، بطلها الذي وضع وحده كل العناصر المطلوبة للعرض؛ في التأليف، والتمثيل، والإخراج، يصفها هو بـالبُعدين: بُعد مع الجمهور، وبُعد مع الحكاية التي تُسرد بمتعة وألم في ذات الوقت، أو كما أطلقت عليها إذاعة مونت كارلو “مسرح الشهادة”، في مقابلة قصيرة معه بمناسبة العرض الجديد. والمشاهدة عبر الوسيط لا تختلف -تقنياً- عن المشاهدة المباشرة هنا. فالكاميرا موجهة عليه طول الوقت، وهو مجرد بلا عناصر مسرحية مساعدة، سوى استعانته بمعطف وقبعة من الجمهور الحاضر، ليتقمص شكل غنام وهو داخل لأرضه، يقضم تفاحة بلا مبالاة حسب أوامر سمير وعبلة وآخرين، حتى يعبروا بسلام من نقطة التفتيش الموجودة! وقمة العبث أن أدخل إلى أرضي بالتهريب.

وكما فعل في عرض “المنفى”، تخلى كذلك -في هذا العرض- عن العلبة الإيطالية التي لا تتناسب وموضوعه؛ حيث يقترب من الناس أكثر، عبر حلقة دائرية لا يتخلى فيها عن شخصيته الحقيقية، ويروي -بصفته الفلسطينية- ما يستحق أن يُروى، وما نحب نحن أن نسمع عن الأرض المغتصبة المحتلة. ومنذ تفتح وعينا على الحياة وقبلها، منذ سنوات الحفظ الأولى في المناهج المدرسية، وشكل الخريطة المحفوظ في ذاكرتنا، والانتفاضة التي بدأت بحجارة تنفِّس عن غضب كامن؛ قيد لم يسمح له بالتعبير والظهور، وعن تصوير لمناظر جميلة قيل لنا إنها في فلسطين، دون أن يسمح لأحد بمقارنتها في الواقع.

ومستمراً يروي مثل شاهد عيان بأم عينه ما رأى، دون أن يدرج هذا تحت أي تصنيف مسرحي، موكلاً هذه المهمة للنقاد والباحثين، وأيضاً المتلقين الذين يشاهدون هذا العرض في أماكن عرضه الكثيرة، والذي نوّه عنه في العرضين المذكورين: أنه يقبل بالتداخل والتقاطع في أي وقت يشعر الحضور بذلك، ويحفز الجمهور ليغنوا منه الأناشيد الثورية التي يحفظها الجميع ويألفونها، أثناء السرد الذاتي على حد تعبيره. وجدير بالذكر أنه انطلق بهذا العرض قبل السابع من أكتوبر، الذي سيشكل انعطافاً تاريخياً في مسير هذه القضايا -أياً كانت التبعات-، هذا الحدث الذي أعاد الصدارة للقضية الأولى، بعد أن تكالبت المصائب في الأرواح والأمكنة لهذه الأمة التي يعرقلها سوء التخطيط، وانخفاض معدل الحزم، والقلق الدائم من تقلص المصالح وانحسار الفوائد.

وفي رحلته التي التقى فيها بناته وأحفاده بعد طول غياب، وهو سبب رئيسي للمغامرة، إلى جانب أسباب أخرى؛ فالطرفان محكومان بقانون المحتل الذي يحكم الدخول والخروج، ويقصي ويهمش من يشاء، دون أي رادع من أي نوع. وعدا أنه يمارس حقه الطبيعي في زيارة فلسطين، فإن رحلته التي بدأها بعد اجتياز الحاجز بمدينة الناصرة، وتسائل بعد أن رأى “أن الأرض بتتكلم عربي”، كما غناها مكاوي، مثل أي مدينة عربية أخرى. فأين هو الاحتلال، إن لم يكن المحتل في مثل هذه التفاصيل؟

ومن الناصرة لحيفا وعكا على التوالي، مصطحباً كل من تتوق نفسه زيارة فلسطين كما يعرفها أهلها. بيت غسان كنفاني، الذي غادره قسراً وهو ذو اثني عشر عاماً في العام 1948م إلى يافا، قبل أن يسوقه القدر إلى مدن أخرى، طابقان من حجر أحمر، محتل من قبل أغراب، يتضايقون بشكل مضاعف من تصوير العامة للبيت؛ لأنهم ما زالوا يطلقون عليه ببساطة: بيت غسان كنفاني، ولا حقيقة ستغيره في الوجدان! وبيوت كثيرة في الأراضي المحتلة، التي يسكنها مؤقتون هم ذاتهم متيقنون من هذا، رغم رد أحدهم على مواطنة حينما واجهته بأنه يحتل بيتها، فيرد بوقاحة لا نظير لها: “إن لم أكن أنا، سيكون غيري!”. أي إحساس بالأمان في منزل مغتصَب، وأصحابه موجودون داخل أو خارج فلسطين، يتمنون الرجوع إليه في أقرب فرصة، والطرف الآخر يمارس حياته الطبيعية؟!

ويحكي عن مقبرة الشهداء عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، الذين أعدمهم الإنجليز في العام 1930م لأنهم معادون لهم وللاستعمار الصهيوني قبل أن يستفحل في المكان، ومازالت قبورهم مبنية بعناية، وحرص أهل عكا على تجديدها سنوياً، حتى لا يتقادم الحدث فتقدم الشخصيات الاعتبارية لتضحياتهم وجسارتهم. كما وثقهم إبراهيم طوقان في قصيدة ما زالت تتردد لتخلد ذكراهم، حتى يصبحوا أرواحاً تتلبسها أجيال أخرى. وكمثل ذاك الصبي الفلسطيني في مقابل الميكروفون الذي سأله المذيع عما يحب أن يكون حين يكبر؟ فيجيبه بعد برهة إن الفلسطينيين يموتون باكراً، وبالتالي هم لا يكبرون!

 أو عن صاحب الفندق في الناصرة، الذي طلب من غنام معاودة الزيارة، وطلب أيضاً -بحكم سلطته “المتخيلة” كفنان معروف- أن يخاطب المعنيين في الدول العربية لكي يتركوهم وحسب “يدبروا حالهم”، بدل التدخل غير المجدي في المسألة التي لا تخرج بنتيجة على الإطلاق، غير البيانات الكلامية التي لا تغير إلا للأسوء. حدث غنام جمهوره عن جبل القفزة، وسعيد سلامة فنان البانتومايم، وسعيد في مطعم الحمص الشهير بتل الفخار، وتمثال نابليون بونابرت الذي لم ينجح في “السطو” على غزة منذ ذاك الوقت؛ إذ إن هذا التل في هذه المدينة الساحلية هو من صنعه ليستطيع القصف من أعلى نقطة، فانهزم. وتمثاله تكريم من أولمرت رئيس وزراء الكيان سابقاً، لفكرته المسبقة عن وعد بلفور في إقامة وطن يجمع كل المشتتين هنا! فكيف يرتبط اسم من تورطت يده بالدم، والظلم، والعنصرية، والتنكيل بأهل البلاد الأصليين؛ بمسألة التنوير، كما تطلق عليه بعض البلاد؟

في عرض “المنفى”، كان غنام يتخيل موته بعيداً عن أرضه، وسط أصوات أصدقائه الذين سيضحكون لو بدأ الملقن عمله، وصوت ابنته عبر هاتف أخيها غسان الذي سيحضر الحدث متأثراً بهذا الفقد، ووصف بقية الحضور. قد يكون هذا حقيقياً؛ لأنه يعرف من حوله جيداً، لكن تفصيلة فارقة واحدة نأمل أن تتغير: المكان؛ سيكون في هذه الأرض، حين تنتهي رحلة الحياة في مكانه الطبيعي، شجرة تنبت مزيداً من الفلسطينيين من أصحاب الأرض، وتعامل الاحتلال كما باحت له إيفا ابنته: “كبره بيكبر.. صغره بيصغر!”.

عن تعدد الصور الأسماء والشخصيات والأحداث المتلاحقة أثناء وجود غنام في مكانه الأصلي، عن فلسطين الموجودة في كل عبارة قربت للمتلقي المسافة. وعن الرحلة/ المغامرة الممتلئة بتفاصيل تعرفها، أو تعرف جزءاً منها، أو حتى تسمع عنها أول مرة، رحلة تأخذك إلى حلم، ودعاء، وأمل بزيارة هذا المكان. لكن المحاكاة أوصلت للمتلقي تلويحة؛ بأن هذا يمكن أن يحصل لنا أيضاً؛ أن نزور هذه الأماكن بمسمياتها الأصلية وبأهلها الأصليين، ونتذكر من كانوا هنا يوماً، وتناثروا مجدداً من حيث أتوا. يجوز أن يكون الآن، أو الجيل الآتي، أو خليط بين جيل شهد وجيل يقرر أن ينتصر لقضيته بفعل مبني على قوة.. المهم أن يغني في وجه معترضه، كما حفيدته ذات السنين الخمس: “أنا دمي فلسطيني”.