تتفاوت مُستويات حُرية التعبير في عالمنا العربي بين مُجتمعٍ وغيرِه، فبينما تمتاز المُجتمعات المعروفة بتاريخ يفخر بتعددية أطيافه وتمازجها وسلاسة التعايُش مع الآخر بمساحات حُريات تعبير أكثر اتساعًا؛ يُلاحظ تضاؤل تلك المساحات إلى حدٍ قد يبدو مُفرطًا – وربما خانقًا- في المجتمعات الأكثر انغلاقًا وتشرنُقًا حول الذات؛ حيث تكثر المُحرمات والممنوعات التي على رأسها “حُرية التعبير” بمُختلف صورها وصولاً إلى أبسط أشكالها أحيانًا، وإذا كان الرجُل المُفكر يُعاني أحيانًا من التقييد الذي قد يحد من حُرية الإعلان عن بعض أفكاره على مسامع الفئة النمطية من المُجتمع خشية البطش أو النبذ الأسري والمُجتمعي؛ فإن المرأة إن جروءَت على اعتناق رأي مُغاير عن المُعتقدات السائدة فسيكون نصيبها من العقاب أضعاف ما يتلقاه الرجُل، ما يجعل أكثر النساء – حتى اليوم- يخترن الانزواء الصامِت وتجنب الإعلان عن آرائهن خوفًا من مصيرٍ لا يقوينَ على مواجهته.
يتوهَّم البعض أن المرأة في المُجتمعات العربيَّة “نالت حقوقها وزيادة” بالنظرإلى ما يطفو على سطح الإعلام الذي ينتقي دائمًا النماذج الأنثوية القليلة المُتمكِّنة من تحقيق بعض طموحاتها عن طريق الصدفة التي وهَبَتها فُرصة أن تولد بين أحضان أُسرةٍ راقية ذات ثقافة عالية وظروف ماديَّة على قدرٍ من الرفاهية، أوعن طريق الكفاح العصامي المرير والاستبسَال في معارك أُسريَّة ومُجتمعيَّة وماديَّة لم يصِلن معها إلى جولات التصر إلا بأرواح داميَة، عندها يُسلط الإعلام اضواءه الغزيرة على تلك النماذج الجاهِزة موحيًا للعالم أن هذه المُجتمعات قدَّمت لنسائها ما يكفي لتمكينهن من التفوُّق والتألُّق بسهولة، بينما وراء كل امرأة من هؤلاء مئات آلاف النساء المحرومات من أصغر حقوقهن التي منها الحق في حُرية التعبير، بل في حُرية التفكير واتخاذ القرار في الشؤون التي تخصهن على أقل تقدير، وحتى أولئك النادرات المُتألَّقات تتربص بهن سياط العار المُلتهبة لتجَلدِهن وجَلد أُسرهن جَلدًا مُضاعفًا عند أي تُهمة قد تكونُ مُلفَّقة بهدف تدميرهن.
خذوا هذه الحكاية الواقعيَّة عن إحدى السيدات الخليجيَّات الباسِلات اللواتي تمسَّكنَ بحقهن في حُرية التعبير عن أفكارهن التي لا يتحملها جهل المُجتمع رغم أنها لا تنتهك قانونًا من القوانين الرسمية للدولة: كانت تلك السيدة متزوجةً زواجًا تقليديًا مُبكرًا من أحد أقاربها، لم تتحمل شخصية هذا الرجل التقليدية المُفتقرة للشجاعة الثقافية هجوم الجراد البشري الذي ينعته بأقذع الصفات لأن زوجته تُعلن عن آرائها صوتًا وكتابةً بمنتهى الشفافية، فما كان منهُ إلا أن طلَّقها ليحمل تطفُّل أولئك الناس وزرَ دمار تلك الأسرة وتشتيت صِغارها، وفوق هذا استمر أولئك المُتطفلون يدسون أنوفهم في حياتها للركض إلى والدها وأشقَّائها طالبين منهم تأديبها وإخراسها.. حاولت السيدة الشجاعة استكمالَ حياتها بتكوين أُسرةٍ جديدة مع زوجٍ آخر ينتمي للوسط الأدبي من مدينةٍ أُخرى غير مدينتها، وانتقلت للعيش معه في مدينته على أمل أن تُكمل حياتها في منزلها الجديد بسلام بعيدة عن شهوة الأذى الي تتبعها من صعاليك المُجتمع، وإذا بالرسائل النصيَّة والمُكالمات الهاتفية تنهال على هاتف زوجها الجديد مُطالبة إياه بلجمها وتهشيم اسنانها لتخرس!
يرتفع منسوب النفاق والرياء في المُجتمعات المُنغلقة لا سيما المُتشددة دينيًا، لذا لا يتحمل أفرادها رأيًا صريحًا يكشف زيفهم وجُبنهم، وإذا كانت الناطقة بالرأي امرأة يُسارعون بسنِّ سكاكينهم وشحذ مناجلهم بكل ما يملكونه من ألفاظ بذيئة وتُهمٍ باطِلة لتدمير سُمعتها والغاء وجودها على ساحة الحياة، وقليلاتٌ جدًا اللواتي تَحمِل أرواحهن نار الحُريَّة القادرة على اذكاء جذوة قدرتهن على التحمُّل والاستمرار رغم وطأة الابتزاز والترويع والتهديد ممن هب ودب.