يعجز المرء عن التعبير تجاه الموقف الإنساني والأممي لجنوب أفريقيا من القضية الفلسطينية وتحديداً من حرب الإبادة الجماعية في غزّة. من يحكم جنوب أفريقيا اليوم هم مناضلون يستلهمون صلابتهم وشجاعتهم من المناضل الكبير الراحل نيلسون مانديلا، ومن نضال شعبهم ضد نظام الفصل العنصري “الأبارتيد” حيث عانوا من جرائم ومجازرَ دمويةٍ ضدهم خلال عقود ذلك النظام العنصري، حيث حكمت الأقلية البيضاء العنصرية جنوب أفريقيا منذ عام 1948، حتى تمَّ إلغاء نظام الفصل العنصري “الأبارتيد” في عام 1993/ 1990، الذي لا يختلف عن الكيان الصهيوني العنصري، ونستطيع القول بأنه توأم له، حيث قتل الآلاف من الفلسطينيين من قبل النازيين الجدد الصهاينة في غزّة من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، وهي نفس الممارسات التي مارسها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، قبل أن تحدث المصالحة في فبراير من عام 1990حتى 1993، حيث كان المواطنون السود والملونون والآسيويون يعانون الحرمان من أبسط الحقوق ولا يعتبرهم ذلك النظام العنصري مواطنين آدميين، فيُحرمون من كل الحقوق ويتعرضون لأبشع أنواع التنكيل والقمع والتعذيب وتُغتصب نساؤهم ويُقتل رجالهم ويضعونهم في محميات تشبه محميات الهنود الحمر في الولايات المتحدةالأمريكية .
بفضل نضال ومقاومة الشعب بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي ومعه الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا وحركات السلم والتضامن والنساء والشبيبة والطلبة الذين قادوا حركة النضال والكفاح الوطني ضد حكم الأقلية البيضاء العنصرية، ليتحقق لهم الانتصار الكبير بالقضاء على نظام الفصل العنصري ويطلق سراح المناضل الكبير الراحل نيلسون مانديلا ورفاقه من السجن بعد سبع وعشرين سنةً في الاعتقال .
تنتهي صفحة سوداء في تاريخ جنوب أفريقيا ويُتوّج أسطورة المقاومة والنضال المناضل الشجاع نيلسون مانديلا رئيساً، ليصبحَ أولَ رئيسٍ أسودَ في تاريخ جنوب أفريقيا في عام 1994 في أول انتخابات ديمقراطية وحرة في البلاد .
هذه المقدمة عن تاريخ جمهورية جنوب أفريقيا والنضال الوطني الذي خاضه الشعب بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي ضرورية ونحن نتوقف أمام مبادرة جنوب أفريقيا بتقديم الشكوى ضد الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية في لاهاي، وجرت المحكمة بتاريخ 11و12 يناير 2024، وكانت المرافعات القانونية قوية من قبل وفد جنوب أفريقيا في المحكمة، حيث ألمّوا بكل ما جرى في قطاع غزة من مجازر دموية تندرج ضمن الإبادة الجماعية من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، كما دعموا مرافعاتهم القانونية بأقوال وتصريحات المسؤولين الصهاينة التي أدلوا بها في وسائل التواصل الاجتماعي وفي القنوات الفضائية، والداعية لقتل الفلسطينيين وغيرها من النعوات التي تصف الفلسطينيين بأوصاف دنيئة لا تليق بالإنسان، وهذا نابع من الفكر الصهيوني العنصري ونظرته إلى العرقيات والأديان الأخرى بازدراء، وكانت الأدلة و الأوراق القانونية التي في يد الوفد الجنوب الأفريقي كافية لإدانة الكيان الصهيوني على ما ارتكبه من إبادة جماعية تفوق في بشاعتها ووحشيتها ما قام به النازيون في الحرب العالمية الثانية في أعوام 1945/1939 في البلدان التي احتلوها .
أقوال للفريق القانوني الجنوب أفريقي
قال مقرر محكمة العدل الدولية إن جنوب أفريقيا تؤكد أن جرائم إسرائيل في غزة “إبادة جماعية”، مشيراً إلى أن الدعوى المرفوعة تطالب بالحصانة للمدنيين في غزّة وتطالب بوقف فوري لإطلاق النار. أما المحامية من وفد جنوب إفريقيا إلى المحكمة عادلة هاشم فأكدت على أن “الوضع بلغ حداً بات فيه خبراء يتوقعون أن يموت عددٌ أكبر من الناس جراء الجوع والمرض” جراء أفعال عسكرية مباشرة.
من جانبه قال سفير جنوب إفريقيا في هولندا إن الاحتلال الإسرائيلي مزَّق الشعب الفلسطيني وأهدر حقّه في تقرير المصير، من خلال تكثيف انتهاكاته في قطاع غزة وبقية الأراضي الفلسطينية. وأضاف ممثل جنوب أفريقيا خلال مرافعته أمام محكمة العدل الدولية أن إسرائيل ارتكبت منذ عقود أعمالَ إبادة وفرضت حصاراً على قطاع غزة، وأشار إلى أن مستقبل الفلسطينيين يعتمد على قرار محكمة العدل الدولية، موضحاً أن بلاده لديها أدلة جُمعت خلال 13 أسبوعاً تؤكد تعمد إسرائيل ارتكاب إبادة جماعية في غزة، متهماً الاحتلال بأنها يتَّمت أعداداً كبيرة من الأطفال في قطاع غزة.
كما أشار الممثل القانونى لجنوب أفريقيا أن ما أثبتته الوقائع في قطاع غزة يقتضي تدخل هذه المحكمة، مشيراً إلى أن شاحنات المساعدات التي تدخل قطاع غزة تخضع لثلاث مراحل من التفتيش. و أوضح أن النية بارتكاب إبادة جماعية متوفرة لدى إسرائيل، كما أن تل أبيب لم تتورع عن استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد المدنيين في غزة، وقنص النساء والأطفال في القطاع، واستشهد بتصريحات نائب رئيس الكنيست والتي دعا فيها إلى محو غزّة من على وجه الأرض، معلقاً بالقول: “النية لتدمير قطاع غزة موجودة لدى أعلى المستويات السياسية في إسرائيل.”
موقف جنوب أفريقيا، أحرج العديد من الدول العربية والإسلامية التي لم تحرك ساكناً لإنقاذ الفلسطينيين في غزة، ولزمت الصمت تجاه ما يجري من إبادة جماعية ولم تتحرك من أجل وقف إطلاق النار بكل مالديها من إمكانيات أو إدخال مساعدات اغاثية من معبر رفح بشكل كبير أو العمل على إخراج المئات وربما آلاف المصابين وهم في حاجة ضرورية لإجراء عمليات جراحية عاجلة تنقذ حياتهم من الموت البطيء، في الوقت الذي يقدم البعض المساعدات اللوجستية للإمبريالية الأمريكية وهي شريك في العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة، وسيسجل هذا الموقف الإنساني والأخلاقي لجنوب أفريقيا في صفحات التاريخ المشرفة بوقوفها مع الشعب الفلسطيني في الوقت الذي تخلَّت عنه معظم الدول العربية والإسلامية.
يبقى على محكمة العدل الدولية، بأن تنطق بصوت الحق والعدالة الإنسانية والأخلاقية ولا تخشى تسلط ، أو إملاءات الدول الكبيرة وتحديداً الإمبريالية الأمريكية المتورطة في العدوان والقتل على الشعب الفلسطيني في غزّة.