بعد الانتهاء من تقديم المرافعات من كلا الطرفين، جنوب أفريقيا والكيان الإسرائيلي، اتضحت الصورة بجلاء للقاصي والداني حول من هو الطرف المعتدي والمشمول بتعريف الإبادة والمذابح الجماعية. وبعد تلك المرافعات يأمل كل أحرار العالم أن تتخذ محكمة العدل الدولية قراراً جريئاً وتاريخياً بوقف العدوان فوراً ومن ثم تجريم الكيان الصهيوني بعدة جرائم، كالإبادة الجماعية والتهجير القسري والتطير العرقي والقتل الجماعي، والتدمير المتعمد الجماعي للبيوت والمساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات والآثار إلى جانب التجويع الجماعي؟
النية المبيّتة للقيام بهذه الجرائم من قبل الكيان الإسرائيلي ثابتة من خلال تصريح رئيس الكيان الإسرائيلي ورئيس الوزراء النتن ياهو ووزير الدفاع، ووزراء الأمن القومي، الطاقة والبنية التحتية، المالية، التراث، الزراعة، إضافة إلى نائب رئيس الكنيست وغيرهم من المسؤولين المجرمين. وبحسب المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقب عليها الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1948، تعني ارتكاب أعمال بقصد التدمير الكليّ أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية وتشمل تلك الأعمال: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى بدني أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب أطفال داخل الجماعة، نقل أطفال من الجماعة عنوةً إلى جماعة أخرى.
ومن خلال التعريف المذكور وبناء عليه واستناداً إلى تلك الاتفاقية الموقعة من قبل كل من الدولتين جنوب أفريقيا والكيان الإسرائيلي رفعت جنوب أفريقيا الدعوى المذكورة. ومن تتبع مرافعة جنوب أفريقيا أمام المحكمة لابدّ وأن ينبهر بأداء فريقها القانوني والذي يضم عددًا من المحامين والخبراء القانونيين المعتبرين، حيث تكونت المرافعة من 84 صفحة صِيغت بعناية ومدعّمة بالوثائق والبراهين والأسانيد القانونية، قدمتها المحامية القديرة الدكتورة عديلة هاشم في حدود عشرين دقيقة صبت فيها عصارة فهمها القانوني الواسع بشكلٍ مرّكز ودقيق، ووثّقت فيها الجرائم التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي منذ اليوم الأول للحرب على غزّة منذ السابع من أكتوبر وحتي يوم المرافعة التي بلغ فيها عدد الضحايا أكثر 21,110 من بينهم أكثر من 7,729 طفلاً، إضافة إلى أكثر من 7,780 آخرين في عداد المفقودين وأكثر من 55,243 من الجرحى والمصابين.
وسبق ذلك أن فصّل الممثل القانوني لجنوب أفريقيا التقسيمات الأساسية للدعوى من مثل إجراءات تقديم الطلب إلى أمين محكمة العدل الدولية واختصاص المحكمة بنظر الدعوى استناداً للمادة 36 الفقرة 1 من نظام المحكمة، حيث شرح بإسهاب الطلبات الواردة في اللائحة من خلال المقدمة والخلفية التاريخية والجغرافية لقطاع غزّة، كما قدّم شرحاً مفصلاً ودقيقاً عن حالة حقوق الإنسان في القطاع من حصار وتمييز وانتهاكات صارخة من قبل الكيان الإسرائيلي كالقتل والتدمير الممنهج بقصد إفراغ غزة من السكان وإجبارهم على الهجرة عن طريق الطرد والتهجير القسري من منازلهم وتدمير الحياة الفلسطينية وجعل العيش مستحيلاً، وبتاء عليه تقدّم بطلب رفع الدعوى ضد الكيان الاسرائلي استناداً للمادتين 36 (1 ) و40 من النظام الأساسي للمحكمة والمادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، لما تتمتع به المحكمة من ولاية قضائية للنظر في الدعوى المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا ضد الكيان الإسرائيلي.
استندت جنوب أفريقيا لأحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، التي دخلت حيز التنفيذ في الثاني عشر من يناير عام 1951، ولم تفوت أيضاً الإشارة إلى الانتهاكات الجسيمة والمستمرة لاتفاقية جنيف الرابعة وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والاعمال والأفعال والتجاوزات التي ترقى إلى مستوى انتهاكات أخرى للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، كل تلك الإنتهاكات ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، مستندة في تلك الدعوى أيضاً على تصريحات خبراء الأمم المتحدة في هذا الشأن وتقارير المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية وقرارمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2720 ديسمبر 2023 والمتعلق باستخدام الطرق والمعابر الحدودية لتقديم شحنات الإغاثة، تقارير الخبراء الدوليين والمقررين الخاصين للأمم المتحدة، لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري، المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن العنف ضد النساء والفتيات، الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، منظمة الصحة العالمية، منظمة أطباء بلا حدود، منظمة هيومن رايتس ووتش، مدراء اللجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الأمم المتحدة.
كما اشتملت الطلبات على حقائق واقعية تمثلت في الفصل العنصري والطرد والتطهير العرقي والضمّ والإحتلال الإسرائيلي، والتمييز وحرمان ألشعب الفلسطيني المستمر من حق تقرير المصير، وفشل الكيان في توفير أو ضمان الغذاء الأساسي والمياه والدواء والوقود والمأوى وغيرها من المساعدات الإنسانية الأساسية، حيث دمّر الكيان الإسرائيلي البنية التحتية كاملة، العديد من مراكز التعليم والثقافة الفلسطينية بما في ذلك مركز المخطوطات والوثائق القديمة والمركز الثقافي الأرثوذكسي، متحف القرارة الثقافي، مركز غزّة للثقافة والفنون، المركز الثقافي الاجتماعي العربي ، جمعية الحكاوي للثقافة والفنون ومتحف رفح، متحف غزة الجديد للتراث الفلسطيني الذي يضم مئات القطع الثقافية والأثرية، الموقع الأثري للمقبرة الرومانية البالغ عمرها 2000 عام، بيوت غزّة التاريخية، الأرشيف المركزي الذي يحتوي على آلاف الوثائق التاريخية والسجلات الوطنية التي تعود إلى أكثر من 100 عام والتي تشكل أرشيفاً أساسياً للتاريخ الفلسطيني، وبذلك فقد دمّر الكيان الإسرائيلي المحتل بشكل كلي التاريخ القديم لغزّة، فهي بذلك تمحو الحياة الشخصية والذكريات الخاصة والتاريخ والمستقبل الفلسطيني.
ولم يكتف المحتل بذلك بل استهدف قصر العدالة، المبنى الرئيسي للمحاكم الفلسطينية في غزّة والذي يضمّ المحكمة العليا والمحكمة الدستورية ومحكمة الاستئناف ومحكمة البداية والمحكمة الإدارية ومحكمة الصلح، بالإضافة إلى أرشيف سجلات المحكمة وملفات تاريخية أخرى، هذا إلى جانب الأضرار الكبيرة بمجمع المجلس التشريعي الفلسطيني، ومن خلال تلك الأسانيد القانونية الدامغة واستناداً لاتفاقية الإبادة الجماعية ثبت بأن هنالك مسؤولية على الدول الأطراف الموقعة على تلك الاتفاقية بوقف تلك الانتهاكات الإسرائيلية لضمان الحماية العاجلة والكاملة الممكنة للفلسطينيين في غزة الذين ما زالوا معرّضين لخطر جسيم ومباشر باستمرار أعمال الإبادة الجماعية.
بناء على كل ذلك دعت جنوب أفريقيا المحكمة إلى اتخاذ إجراء فوري بوقف جميع الهجمات العسكرية التي تشكل أو تؤدي إلى انتهاكات لاتفاقية منع الإبادة الجماعية وإلزام إسرائيل بالكف عن القتل والتسبب في أذى عقلي وجسدي خطير للشعب الفلسطيني في غزّة والكف عن فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى تصفيتهم جسدياً كمجموعة ومنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية وإلغاء السياسات والممارسات ذات الصلة بما في ذلك ما يتعلق بتقييد المساعدات وإصدار توجيهات الإخلاء.
ولكون ذلك إجراءاً عاجلاً، فإن المحكمة ستنظر فيه أولاً، وبناء عليه حددت المحكمة تاريخ 11 و12 يناير لنظر التدابير المؤقتة وفقاً للمادة 41 من نظام المحكمة والمواد 74,73 و75 من قواعد المحكمة، حيث طلبت جنوب افريقيا من المحكمة أن تشير إلى إجراءات مؤقتة. وفي ضوء طبيعة الحقوق المعنية وكذلك الضرر الشديد وغير الممكن إصلاحه الذي يعاني منه الفلسطينيون في غزّة، معالجة هذا الطلب كمسألة ذات أهمية قصوى. واستناداً لكل ذلك استمعت المحكمة لمرافعة الطرفين ريثما تُعقد جلسة المحكمة للنظر في باقي الطلبات الواردة في لائحة الدعوى بخصوص منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.
هذه الدعوى الاستثنائية بالغة الأهمية غيرت وستغير الرواية والسردية الغربية والدولية تجاه كل ما يجري من أحداث في فلسطين، بل أنها قلبت الطاولة على الكيان الصهيوني وداعميه بالأدلة والبراهين وبشكل مُحكم وقوي حتى لا يفلت مرتكبو هذه الجرائم من العقاب، لذلك نحيي الموقف المشرف والجريء لجنوب أفريقيا برفع هذه الدعوى التي أعادت تذكير العالم بعدالة القضية الفلسطينية، وبالظلم الكبير الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وإبراز الرواية القانونية الحقيقية للعالم عن حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزّة وفي كامل الأراضي المحتلة.
- المرجع: الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية