شاركتُ في الأسبوع الماضي، عن بُعد، بالتعقيب على بحثٍ قدّمه الباحث علي عبد الرؤوف، في سيمنار نظمّه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ناقش موضوع المدينة الخليجية الحديثة، وجاء البحث تحت عنوان “نموذج جديد في التحضّر الناشئ في مُدن الخليج”. بدأ الباحث ورقته من ملاحظة أنّه ما من مدينة تعرّضت للنقد من أساتذة العمارة والعمران ونقّادهما كما تعرّضت المدينة في الخليج، من زاوية فقدانها هويتها “وطمسها ثقافتها وتغريب عماراتها وعمرانها، وسطحية تخطيطها وبلاستيكية تكوينها البصري المصطنع”.
لعلّ الغاية من هذا القول رغبةُ الباحث بلفت النظر إلى أنّ نقّاد صورة المدن الخليجية الحالية، لا يلتفتون إلى الجانب الآخر من الصورة، حيث أوجه التحديث والتطوّر في البنى التحتية والخدمات المتطوّرة التي تقدّمها البلدان، التي تقع فيها هذه المدن، لمواطنيها والمقيمين فيها، وفيما يقوله نقّاد صورة مدينتنا الخليجية الحديثة أوجه وجاهة لا يمكن إغفالها، ولكنّي أوافق الباحث على أحادية هذا النقد، ومع إقرارنا بأنّه لولا الثروة الآتية من عائدات النفط والغاز لما أمكن لبلدان الخليج أن تبلغ ما بلغته من أوجه تطوّر عمراني، لكن علينا تذكّر أنّ بلدان الخليج ليست الوحيدة المُصنّفة في خانة البلدان النفطية عربياً، فهناك دول عربية نفطية أخرى بينها العراق وليبيا وغيرهما، وللمقارنة علينا ملاحظة ما آلت إليه الأوضاع في تلك البلدان، من دون أن نغفل الفروقات الناجمة عن عوامل أخرى مُهمّة بينها حجم التركيبة السكانية الصغيرة في بلدان الخليج، قياساً إلى ما هي عليه في سواها من بلدان عربية نفطية أخرى.
ربّما يتعين القول إنّ بعض النظرة السلبية لمدن الخليج، اليوم، آت من التنميط القائم لصورة الخليج عامة، والذي ينزلق أصحابه إلى اعتقاد أنّه لا تاريخ لبلدان وشعوب هذه المنطقة سابق لاكتشاف النفط فيها، وفي هذا الكثير من الإجحاف، فالدارس للتاريخ الثقافي لبلدان المنطقة، على الأقلّ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقبل اكتشاف النفط بعقود، بل وبنحو نصف قرن في بلدان أخرى، سيكتشف كم كابدت وكافحت النخب الثقافية المُبكّرة في بلداننا من أجل شقّ طريق التحديث الثقافي، والمجتمعي عامة، وكم تفاعلت مع بواكير النهضة الثقافية العربية في تلك الفترة! يصحّ على المدينة الخليجية، اليوم، ما يصحّ على مدن أخرى في بلدان مختلفة، من خضوعها لآليات العولمة، بما في ذلك في مجال العمارة، وحسب الباحث سليمان خلف “لا يمكن تفسير ظاهرة المدن الواسعة بتخطيطها وأشكال التحضّر العمراني فيها، بمعزل عن ديناميات التراكم الرأسمالي المرن الذي تتصف به اليوم الرأسمالية المتأخّرة”، بما في ذلك انسيابيات العمالة الوافدة، وتأثيرات الإعلام العالمي الجديد، والخدمات الحديثة التي بات العالم الرقمي الحديث يُيسرها، وطبيعي أن ينجم عن ذلك أشكال من الغربة عن الخصوصية الثقافية والمجتمعية المحلّية، خاصة مع النسبة المنخفضة لمواطني بلدان الخليج إزاء العدد الهائل للمقيمين من الجنسيات المختلفة، للدرجة التي تبدو فيها مناطق سكن المواطنين، أشبه بالغيتوهات أمام غلبة الطابع الكوزموبوليتي على مدن الخليج. وقد أشرتُ في مداخلتي في السيمنار، المشار إليه، إلى أنّ المدينة الخليجية، من حيث هي الجسم العمراني والسكاني الأساسي لدول الخليج، ما زالت تبدو غير مكتملة، وفي طور النمو والتوسّع، وهذه الملاحظة يمكن تعميمها، فهي في العمق الاجتماعي ليست أقلّ بروزاً، بل إنّها هنا بالذات أكثر حدّةً وأبلغ في النتائج، وأشرنا، غير مرّة، إلى أنّ ذلك يظهر، أشدّ ما يظهر، في الازدواجية العميقة للقيم وأنساق الثقافة ومظاهر الوعي الاجتماعي، فمن جهة تخترق مظاهر العولمة ثقافياً وعمرانياً البنى والمظاهر التقليدية في مجتمعاتنا، وتنشأ مدن حديثة تُضاهي المدن الأميركية أو الأوروبية، لكن خلف هذه المظاهر الجذابة والأنيقة تختفي مظاهر الكسل والركود في أشكال الوعي، ورغم أنّ التكنولوجيا الحديثة إذ تدخل مجتمعاً ما فإنّها لا تفعل ذلك بصورة محايدة، إنّما هي تحمل معها مؤثّرات مهمّة تمسُّ الوعي، لكنّ “الوعي”، الذي ينشأ عندنا بحكم ذلك، هو وعي مُشوّه لأنّه يريد التشبّه بمظاهر الحياة الحديثة، ويزعم في الوقت نفسه تمسّكه بمنظومة القيم الموروثة. ليس هذا النوع من التأرجح بين التحديث والتقليد حالة خاصة بمجتمعات الخليج، غير أنّه يتجلّى فيها بصورة أوضح، لعوامل عدّة، بينها تسيّد نمط الاستهلاك الترفي و”التحضّر الفوري السريع”.