مُدَرِّسو الأمس ومُدَرِّسو اليوم

0
150

ينقل القشيري في رِسالته أن مريدًا سافرَ مِن بغداد إلى مدينة الرّي قاصِدًا التعلم على يد يوسف بن الحسين الرّازي، ففي حلقات الدّرس، وقبل أن يتم النموذج النظامي للتعليم  الحديث، كان للطالب حرية اختيار أُستاذه، وكان للأُستاذ أيضًا حرية اصطفاء مريديه النجباء، وكان له حريةً أكبر في اختيار النموذج التعليمي، وصورة الأفكار التي يريد أن يتربى عليها مريدوه، وهنا أختارُ كلمةَ مريد على كلمةِ تلميذ لأنه كان يحظى بالإرادة في اختيار شخصية مُرادِه، أما اليوم فلا يوجد إرادة، إنما أساتذة مُختارون مِن قبل سُلطة، وكذلك نماذج تعليمية مفروضة على هؤلاء الأساتذة المختارين، بالإضافة إلى تلامذةٍ تمّ توزيعهم مُسبقًا ودون إرادة منهم أو مِن أساتذتهم على صفوف ومدارسٍ ليس بحسب الذكاء إنما بحسب الدوائر والمجمّعات السكنية التي يقطنونها؛ وهذا الفرض سَلب الطالب الإرادة، ولذلك فإنك عندما تسأل الكثير من الطّلاب: هل تُحِبون مدارسكم؟ يجيبون: كلا. ويفرحون بأيام العُطل والتّسَلُّلِ من فوق أسوار المدارس، وقليلًا ما تجد طالبًا يردد شِعرًا شبيها بشِعر أبي الفتح البستي:

إذا مَرَّ بي يومٌ ولَم أقتبِس هُدًى

ولَم أستفِد عِلمًا فما هُوَ مِن عُمري

إلا إذا كان هذا الطالب قد اكتشف طريقه الذاتي لاختيار ما يمكن تعلُّمه خارج أسوار المدرسة وأبوابها، فبدا في تعلُّمِهِ هذا شغوفًا مُحِبًّا.

إن ما يشعر به الطالب هنا هو أن التعليم سُلطةٌ رابِعةٌ عليه، والأستاذ أشبه بضابط عسكرية، وهذا شعورٌ مزدوج عند الطالب والأستاذ، إذ الأستاذ ليس مريدًا – من ناحية المعلومة التي ينقلها ويتمثل أوامرها – وليس مُرادًا – من جهة الطالب الذي لم يَختَرهُ – ويُوَلِّدُ انعدامُ الإرادة هذا بين الطالب والمطلوب هدمَ جِسر الثِقَة بينهما بطريقةٍ لم توجَد سابقًا، ويحتاج بذلك إلى ردم من خلال مُعلمين يَظهرون في حياتنا كومضة البرق اللامع، إلا أنهم يتركون أثرًا عظيمًا، أولئك المعلمون الذين هم خارج الدائرة التي وصفها غوته: “ليس أسوأ من معلِّمٍ لا يَعرِف سوى ما يجب أن يعرفه تلاميذه”.

بمناسبة اليوم العالمي للكتاب أقامت أسرة الأدباء والكُّتاب ندوةً بعنوان “فضاء القراءة ومساراتها” للدكتور حسن مدن، في أحد المداخلات تحدّث رجلٌّ عن مُدرِّسي السبعينات الذين درَّسوه، قال فيها بأنه لا يذكر مُدرّسًا لم يَكن قارئًا، فمعظم مَن درَّسوه كانوا إما مثقفين على درجة عاليةٍ أو مهتمين بالقراءة خارج المنهج، فمدرِّس الدين مهتم بالفلسفة، ومعظم مُدَرِّسي اللغة العربية إما شعراء وأدباء أو مهتمين بالشعر والأدب، أما اليوم فكثير من المدرّسين الذين أعرفهم لا يقرأون إلا المنهج الذي يدرِّسونه لتلامِذتهم، ولا يمكن أن نضعهم في عِداد الثقافة والاشتغال في آدابِها، وبالتالي لا يمكنهم الإشارة على طالِبٍ بكتاب أو حتى أن يتركوا ذاك الأثر فيه كما كان يفعل المُراد، كما أنهم لا يثقون بتلميذ يُبدي فِطنةً أو أسلوبًا تعبيريًا عاليًا، ويُعجِزهم تصديق أنه يَخرج من بين أيدهم التي لم تُك مُهتمةً بالتثقيف الذاتي عندما كانت في ذات عُمرِ مَن يُظهِرُ هذه النّجابة والفِطنة من الطلّاب، ذاك أن كثيرًا من معلمي اليوم يَدرِسون التخصص لغايات وظيفية، وليس مِن هَمٍّ غيرَه لدى كثيرٍ مِن معلمي اليوم الّذين ما عادوا كسابقيهم، ونحن هنا لا نلوم المعلم في ذاته بل ما آلت إليه المؤسسة التعليمية وآلياتها التي أنتجت هذا المُعلِم الذي يُنتج بدورهِ طُلّابًا يدورون في ذات الحلقة التعليمية القائمة على أساس ما يطلبه السوق الوظيفي لا ما تتطلبه أفكارهم وطاقاتهم الخلاّقة التي بامكانها إنتاج السوق وتغييره من خلال التربية الفكرية النقدية، تلك هي الجدليّة الأدونيسية بين الابداع والاتّباع، مع فروقات ما يجب أن يُتّبع ويُبتدَع.

في سنتي الجامعية الثالثة درست أستاذ مادة اللغة العربية (ع. ف)، وجاءت ورقة التعبير في أحد الامتحانات حاملةً ثلاثة مواضيع، اخترت من بينها موضوع السعادة، لأني كتبت قبلها بأيام مقارنة بين دراسة لباحثَين أوروبيَين أحدهما يدعى ستيفنسون والآخر جوستين قالا بأن المال يحقق السعادة للإنسان، بينما يقول الفيلسوف التاوي شاو يونغ في القصيدة المعروفة في الإرث الصيني باسم “أغنية السعادة”: “سم سيد السعادة مجهول من ثلاثين سنة/ يعيش على شاطئ نهر لُو/ مشاعِرُهُ مشاعِرُ الرّيح والقمر/ روحُهُ على النهر والبحيرة/  ليس عِندَه من فارق بين المنصب العالي والمنصب الواطي/ بين الفقر والغِنى/ لا قيود لديه ولا تحريمات/ فقيرٌ ولكنه غير آسف.”

لقد كتَبَ شاو يونغ هذه القصيدة – وهذا مقطعٌ منها – آخر عمره بعد خدمةٍ لثلاثين سنة في البلاط الأمبراطوري وزيرًا، وعيشهِ ثلاثين سنة أخرى زاهدًا في كوخٍ على ضفاف نهر لُو، وتساءلتُ في النهاية هل يمكن للباحِثَينِ الأوربييَّن أن يُقنعا شاو يونغ أن السعادة في مفهومها المجرد يمكن للمال أن يحققها؟ وككثير من المفاهيم المجردة، كالله، والحب، والجمال، والحقيقة التي تخضع في تعريفاتها للتجارب البشرية وحدودها لا يمكن تعريف السعادة كقيمة مجرّدة ضمن حدود أو قاعدة واحدة.

نُقِّصتُ ودون مناقشة ثلاثَ درجات من امتحاني لأنه ظهر في عقل أستاذي وَجْهَ الشِّعار لا وجه الكتابة من العملة المعدنية التي قلّبها في رأسه متكهنًا أنّي نقلت القصيدة من الإنترنت، ولا زلت أحتفظ بورقة التعبير التي كتب لي عليها بإرادة جزافية: “لا يجوز النقل من الإنترنت”. وحين ناقشته أثناء توزيع الورقات وأمام الطلبة: “ولكني لم أنقل من أي مكان”. سألني: “والقصيدة؟”. قلتُ: “أحفظها، وإن أردتَ يمكنني إلقاؤها الآن”. فما كان منه إلا أن أشاح بوجهه. أتمنى منه اليوم وهو لا يزال أستاذًا للّغة في ذات الجامعة ألّا يكرر ذلك مع تلاميذه الآن، فأنا لم أكُ مُهتمًا للتحصيل بقدر ما هو السُّلوك. أما هذه الإشاحةُ وهذا التكهن، فنابعٌ كله من هذه المسألة والنظام التعليمي، بالرغم من أننا في المستوى الجامعي الأكثر تحررًا من قيود المؤسسة التعليمية في المدرسة، إلا أن هذا الخلل في عدم الاختيار والإرداة أولًا هو ما يخلق هذه الأزمة من الثقة بين طالبٍ لا يعرف أستاذه حق المعرفة، وأستاذٍ لا يعرف تلميذه أيضًا.

أذكر هنا، وللمفارقة، ما ذَكَره الدكتور حسن مدن في أسرة الكتّاب والأدباء عن أستاذه “أحمد المنّاعي” الذي درّسه اللّغة العربية أيّامَ الثانوية، وكيف أنه آمن في الطالب حسن و كان لدوره التعزيزي أثرًا في جعل هذا الطالب كاتبًا يؤمن بنفسه، وخصص حسن مدن لهذا الأستاذ صفحات من كتاب سيرته القصيرة “ترميم الذاكرة” يقول فيها: “شاءت مصادفةٌ جميلة أن الناقد والأديب المعروف أحمد المنّاعي كان يدرّسنا اللغة العربية، من حِصةِ التعبير الأولى لاحظ مَلَكَتي في الكتابةِ، وبعد أن فرغتُ مِن كتابة موضوع التعبير الأول، قال لي بأنه سينشره في مجلة (هنا البحرين) التي تصدر عن وزارة الإعلام. لقد شجعني كثيرًا، وحَثّني على متابعة القراءة والاطلاع ووجهني لقراة كتب بعينها ذات صلة بالنقد الأدبي” ترميم الذاكرة، ص42.

إن المعلم لن يتحرر من هذه النظرة حتى يحبّ مهنته، ولن يحبّها حتى تحرره بدلًا من أن تقيّده، فإذا حررته حررت طلابه معه من دونية النظر لهم ودونية النظر لنفسه، حينها يكون قادرًا على التأثير الإيجابي، ويسمح لطلّابه أن يُفيدوه أيضًا ويُؤثروا عليه، لأنه يؤمن بأنّ له ولهم الحق في صنع ذلك الأثر، فهو ليس ضابط في العسكرية ولا معصوم عن الخطأ، والطالب ليس جنديًا عليه أن ينضبط ولا يجادل، وذلك ما نجده في إرثنا حيث يهذّب الأستاذ نفسه بتخليه عن نزعة الأستذة والسماح لطلّابِه أن يُصَوِّبوه، كان أبو حنيفة يقول: “هذا رأيي فمن جاء بخلافِهِ قبلناه “. وقال مالك ابن أنس: “أنا بشر أخطِئ وأُصيب”. وللشافعي: “إذا صحّ الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط”. وكان الجنيد وهو شيخ السري السقطي قد وقف مع تلميذ السُّري سامحًا أن يكون له صواب الرأي على أُستاذه، قائلًا: أني أذهب مع قول تلميذك: “التوبة أن تنسى ذنبك”. ولا أذهب مذهبك في القول بأن: “التوبة أن لا تنسى ذنبك”. وحين سأله السري: “كيف ذلك؟”. أجابه: “لأن ذكر الجفاء في حال الصفاء من الجفاء”. وهذا النقد لنزعة الأستذة كله جاء من معلمين كبار آمنوا بدورهم، فآمن بهم تلامذتهم كما آمن التلامذةُ بأنفسهم وقُدراتهم من خِلالهم.