المتشائلون

0
69

“جاءت النهاية حين إستيقظت في ليلة بلانهاية…رأيتني جالسا على أرض صفاح. باردة ومستديرة. لايزيد قطرها على ذراع. وكانت الريح صرصراً والأرض قرقراً. وقد تدلت ساقاي فوق هوة بلا قرار.. فرغبت في أن أُريح ظهري. فإذا بالهوة من ورائي كما هي الهوة من أمامي وتحيط بي الهوة من كل جانب. فإذا تحركت هويت. فأيقنت أني جالس على رأس خازوق بلا رأس. فصرخت: النجدة. فجائني بها رجع الصدى واضحة حرفاً حرف، فعلمت أنني جالس على علو شاهق. …فماذا أنا فاعل ؟”.

لم تكن هذه هي حالة “سعيد ابو النحس” بطل رواية “المتشائل” (تعبير يدمج المتفائل والمتشائم بكلمة واحدة )، بل ربما هي حالة كاتب الرواية نفسه إميل حبيبي (1922 – 1996)، ورفاقه  إميل توما (1919 – 1985)، توفيق زياد (1929 – 1994)، سميح القاسم (1939- 2014)، محمود درويش (1941 – 2008)  وغيرهم من كتاب وشعراء ومثقفين فلسطينيين عاشوا في الداخل الفلسطيني إبان أحلك سنوات الاحتلال التي أعقبت نكبة 1948. عُرفت تلك السنين بحقبة الحكم العسكري الإسرائيلي (تمّ التوقف عنه في نهاية 1968، بعد أن أحيلت صلاحياته  إلى جهازي الشرطة والمخابرات الاسرائيلية). طيلة مايقارب العشرين عاما شملت عقدي الخمسينات والستينات، لم يتمكن  أي فلسطيني في الداخل من الانتقال بين المدن والقرى إلا بتصريح من الحاكم العسكري، ولم يتمكن أي أحد من مزاولة أي عمل أو نشاط بدون رخصة منه. تمّ فرض الجنسية الإسرائيلية قسراً على كل فلسطيني مقيم داخل حدود 1948، و تمّت معاملتهم كمواطنين من درجة أدنى من المواطنين اليهود. الخلاصة كان كل فلسطيني بداخل الأرض المحتلة يعيش تحت ضغط حالة طوارئ دائمة بكل ما تحمله هذه الكلمة من توترات وجودية  ونفسية ومعاشية.

كان البقاء والصمود في فلسطين بعد النكبة شجاعة تاريخية بكل المقاييس، ولكن الاستمرار بالعيش في ظل حالة طوارئ مستمرة  جسّدت مأزقا مطابقا لحالة الجلوس على ” خازوق بلا رأس”، مضافا إليه خطر السقوط من علو شاهق.  يقول بطل الرواية: “أوقعتني الشجاعة في مأزق لم أنج منه إلا بمزيد من الشجاعة”.  ويبدو أن هذا ماحصل بالضبط، فبعد شجاعة الصمود والبقاء في فلسطين المحتلة، تطلّب الأمر شجاعة إضافية بمواصلة النضال ضد الاحتلال،  الأمر الذي قام به كوكبة من المناضلين تعددت مشاربهم من كتّاب وصحفيين وسياسيين وشعراء.  سنعرفهم لاحقا بتسمية أطلقها عليهم الشهيد غسان كنفاني: “أدباء المقاومة”.

سيتجدد على الدوام الاهتمام بتلك الحقبة الهامة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، سواء من أولئك الذين كانوا عناصر فاعلة فيها (وأغلبهم رحل)، أو من جيل جديد من الدارسين الأكاديميين من فلسطينيي الداخل. سنقرأ في رسالة بعث بها محمود درويش الى سميح القاسم، في منتصف الثمانينات مايلي: “هل تتذكر البداية؟ … أيام كان الحاكم العسكري هو الناقد الأدبي الذي يحدد ما يصلح للصراع وما لا يصلح للشعر… كانت السجون معاهدنا الأولى التي تعلّمنا فيها دروس الحرية الأولى … كان إسمنا الداخل، ما أشدّ فتنة هذا الأسم..منذ البداية كان الصراع محتدما على الجبهة الثقافية بين مشروع التهويد والاستلاب والعدمية والتغريب…وبين وعي الهوية والحرية، ومنذ البداية انتصر المتنبي وأبو فراس الحمداني فينا على حاييم نحمان بياليك وجده السموأل. … إن ذلك البقاء الأول هو الذي حمى الوطن من التلاشي. وإن الداخل هو القوة المادية للهوية الوطنية الثقافية.وإن للداخل رسماً يفوق السحر، لأن الداخل هو الذي وفر للظاهرة الفلسطينيية قوة المعجزة.”

هذه المعجزة هي ربما ما دفع بجيل جديد من الباحثين الأكاديميين الفلسطينيين الشباب من داخل إسرائيل  في البحث بعمق في ظاهرة اشتباك المثقف بالسياسة بداخل فلسطين،  منهم على سبيل المثال لا الحصر، هنيدة غانم وهي باحثة فلسطينية في علم الاجتماع (تُدير المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار)، والتي تشير إلى هيمنة المثقف الشاعر خلال الفترة من 1948 – 1968، مقابل المثقف الأكاديمي  في نهاية الستينات وبداية السبعينات. (هنيدة غانم “ما بين النكبة والنكسة: تحولات الخطاب الجمعي – السياسي للمثقفين الفلسطينيين في الداخل”).

الباحثة الفلسطينية مها نصار، أستاذة مساعدة في كلية دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بجامعة أريزونا، خصصت كتابها “إخوة متباعدون: مواطنو «إسرائيل» الفلسطينيون والعالم العربي” لبحث دور المثقفين الفلسطينيين داخل إسرائيل بالتحديد خلال حقبة الحكم العسكري الآنفة الذكر.  تموضع الباحثة ما تطلق عليه استراتيجيات المقاومة، ضمن ثمان مسارات متداخلة مع بعضها البعض، وتحددت معالمها، ضمن مؤثرات  السياق السياسي للأحداث ( بداخل وخارج فلسطين المحتلة) في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

العديد من هذه الاستراتيجيات تمّ تطويرها إبان سنين الانتداب البريطاني لفلسطين.. الاستراتيجية الأولى تجسدت في تركيز  نشاط الشيوعيين (الحزب الشيوعي الاسرائيلي)  على العمل الجماهيري وتنظيم المهرجات الثقافية. يشير العديد من الدارسين لتلك الحقبة،  إلى أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي كان الحزب الوحيد غير الصهيوني الذي ضمّ في صفوفه فلسطينيين ويهوداً على قدم المساواة ، ما جعله ربما الخيار الوحيد المتاح لفلسطينيي الداخل في العمل السياسي العلني آنذاك. اكتسبت أفكار ومواقف الحزب جاذبية خاصة لدى الكادحين والمثقفين  الفلسطينيين لارتباطها بنضالات الشعوب وحركات التحرر في العالم الثالث، وكفاحها ضد سياسات التمييز العنصري الذي مارسته سلطات الاحتلال ضد فلسطينيي الداخل. من أبرز معالم تلك المرحلة أن الحزب كان بمثابة الحاضنة لنشاط وإبداع مجموعة من مثقفي المقاومة سواء كانوا من الجيل السابق للنكبة (توفيق زياد، إميل حبيبي، إميل توما) أو من الجيل الجديد من الشباب ما بعد النكبة (محمود درويش وسميح القاسم).

تشير الباحثة الى أن المعوقات التي واجهت هذه الاستراتيجية، خاصة بالنظر  للقيود المفروضة على تنقل الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة آنذاك، دفعت لاتباع استراتيجية ثانية تمثلت في الاستفادة من الجرائد والصحف الناطقة باللغة العربية لمقاومة الخطاب الرسمي  لسلطات الاحتلال (جريدة “الاتحاد” الإسبوعية في حيفا، ومجلة “الجديد” الشهرية). في مطلع الخمسينات، ومع بداية المد القومي، بدأ الشيوعييون بالتعاون مع القوميّين باتباع استراتيجية ثالثة للمقاومة: تأسيس منظمات جماهيرية مشتركة وصحف ومجلات جديدة. تزامن  ذلك مع بروز استراتيجية رابعة تمثلت في تسريب مطبوعات وأدبيات ثقافية عربية من خارج اسرائيل الى داخلها، والعكس صحيح  (تسريب  أدبيات عربية من داخل اسرائيل الى العالم العربي).

وحيث أن عقد الستينات إتسم  بموجة عارمة من الإبداع الأدبي في حقول الشعر والقصة والرواية في العالم العربي، وخاصة على صعيد تلاحم وترابط الابداع الأدبي بالنشاط والموقف السياسي، فإن هذا المناخ ترك بصمته على مثقفي فلسطين المحتلة وساهم في بروز الاستراتيجية الخامسة للمقاومة: تأليف ونشر وترديد الشعر السياسي. كان محمود درويش وسميح القاسم من أبرز ممثلي هذه الاستراتيجية التي أطلق عليها غسان كنفاني تعبيره الشهير: “أدب المقاومة”.

الاستراتيجية السادسة تمثلت في المشاركة الخارجية في المهرجانات الدولية، ومن الأمثلة على ذلك،  مشاركة محمود درويش وسميح القاسم في مهرجان الشباب والطلبة في صوفيا-بلغاريا عام 1968. الاستراتيجية السابعة حسب الكاتبة تمثلت في تقديم العرائض والمذكرات الى المؤسسات الدولية التي يتم عبرها شرح معاناة فلسطينيي الداخل (عريضة الأرض لعام 1964 أبرز مثال على ذلك). وأخيراً، وفي أعقاب تزايد الرقابة والضغوط من قبل سلطات الاحتلال خاصة مع تزايد نشاط المقاومة الفلسطينية المسلح بالخارج وغيرها، برزت استراتيجية ثامنة للمقاومة تمثلت في الخروج ومغادرة إسرائيل كما حصل فعليا مع الشاعر محمود درويش، أي أن الكاتبة تعتبر المنفى الإختياري خارج الوطن بمثابة استراتيجية أخيرة للمقاومة ضد المحتل.