قاسم حدّاد: دليلُ جهةِ الشِّعر

0
9

عندما أنجزت برنامجي “الملهم” عن الشخصيات المؤثرة التي كانت مصدر تحفيز في مجالات مختلفة، استحضرت في بالي حكاية شاب يدعى “جاسم” ولد في حي شعبي في المحرّق في البحرين، وامتهن عدة أعمال يدوية مجهدة من الحدادة مهنة أبيه إلى عامل بناء، لكنه أصبح بعد سنوات من ذلك أب القصيدة الحديثة في البحرين، وأحد رموزها في العالم العربي كله، فكان ملهما لجيلي وأجيال سبقتني وأخرى لحقتني، حيث كنا مريدين نلتف حول قطب قصيدة النثر «قاسم حداد».

أول اتصال لي حقيقي بشعر قاسم حداد كان في بداية التسعينيات أثناء دراستي الجامعية، فقد كنا في كلية الآداب منقسمين إلى معسكرين، أحدهما ينتصر لقصيدة النثر والحداثة وينحاز لأشعار قاسم حداد وتنظيرات أدونيس، وثانيهما ينتصر لعمود الشعر والقصيدة المنكّهة بالنفس التراثي. فكانت دواوين قاسم من “خروج رأس الحسين من المدن الخائنة” إلى “ليس بهذا الشكل ولا بشكلٍ آخر”، لا تخلو منها حقائبنا، في طبعات أصلية أو مصورة لا فرق، فلضعف إمكاناتنا المادية آنذاك كنا نتبادل إصداراته مع الشغوفين مثلي بشعره، وبعدها حين توظفت صرت أقتني أكثر من نسخة من الديوان الواحد لأخص بها من يشاركني العشق القاسمي، كما كنا نتتبّع قصائده ومقالاته وحواراته ولقاءاته التلفزيونية، ولمّا خصّص صفحة على الشبكة العنكبوتية للشعر بعنوان “جهة الشعر” أدمنّا متابعتها والاستفادة منها لولا أنها توقفت ككل مشروع ثقافي ناجح لتعسّر التمويل.

لقد كنّا “فانز” حقيقيين بلغة وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي إحدى مسابقات الإلقاء التي كانت تنظمها الجامعة وصلتُ إلى المرحلة النهائية في تنافس بيني وبين زميلتي، وما حسم فوزي إلا نص من ديوان قاسم “يمشي مخفورا بالوعول” كلّفتنا اللجنة بإلقائه، سبق لي أن قرأته مرارا. وشاءت الأقدار أن تتقاطع طريقي مع شخصين كانت لهما صلة شخصية وأدبية بقاسم حداد أحدهما أستاذي عبد الحميد المحادين، إذ أصبح منبعاً لي أستزيد منه معرفةً بأخبار قاسم وشعره وعوامل تكوينه الأولى وظروفه الصعبة التي تحداها، فقد كان صديقا له مقرّبا. وثانيهما طالب سابق لدفعتنا كان يعدّ رهان مستقبل النقد في البحرين، لولا أن الموت اختطفه باكرا، فمحمد البنكي رحمه الله كان مرشدنا لتفكيك شعر قاسم والوقوف على مناحي الإبداع فيه.

أتيح لي بعدها بفترة قليلة اللقاء الشخصي بقاسم حداد، إذ كنت عضوا برابطة الملتقى الشبابي التابع لأسرة الأدباء والكتاب في البحرين، وفي مركزها التقيته، وكنت يومها أنجز بحثاً جامعياً عنه، وحين أخبرته بذلك لم يبخل علّي بأي معلومة عن سيرته أو أدبه بأبوة كاملة، رغم أني لم أكن سوى طالبة طموحة مولعة بشعره، وكان الشاعر المعروف في الوطن العربي كله. وأشد ما لفتني حينها تواضعه وثبات رجليه على الأرض، رغم أن اسمه الشعري كان يطاول السماء، وهذه الميزة تأكدت لي في ما بعد في لقاءات عديدة في الملتقيات، أو الأمسيات في البحرين وخارجها. فما من مرة طلبت استضافته إلا ورحب بذلك، واستجاب لطلبي بمحبة غامرة دون اشتراطات مسبقة في الأسئلة، ولا تمنّع اعتدت عليه من بعض الضيوف، أو تصرفات تدل على ذوات متضخمة.

وجمع إلى التواضع ميزة الوفاء لأصدقائه، وقد شاهدت هذا عياناً في موقفين: أولهما فرحه الغامر في حفل جائزة العويس الأخير بفوز صديقه أمين صالح، الذي شاركه كتابة نص “الجواشن” ولا يزال رفيقه في المشي في شوارع المنامة. وثانيهما بكاؤه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في مدينة جدة، حين عُرض ضمن فعاليات المهرجان الفيلم الوثائقي “خالد الشيخ : بين أشواك السياسة والفن” وكنت ضمن الوفد البحريني ورأينا جميعا قاسم بعد انتهاء الفيلم يبكي تأثرا، وكانت في الفيلم شهادات له ولابنه الموسيقي محمد. وبينه وبين خالد الشيخ صداقة طويلة كما أنهما اشتركا مع الفنان التشكيلي إبراهيم بو سعد في ثالوث يجمع الصورة والنص الشعري واللحن بعنوان “وجوه” وشاركهم أدونيس قراءاتٍ بصوته.

ما كان يسعدني في كل لقاء تلفزيوني مع قاسم حداد أنه كائن متجدد كثير التجريب، فكل مقابلة معه متعة فكرية تنفتح على آفاق جديدة في الشعر والفكر، ورغم أني حاورته في برامجي المختلفة مرات عديدة، إلا أنني ما زلت أستشعر إلى الآن أن لقاء العمر معه لم تحن ساعته، فما قدمته عنه إلى الآن يبقى ناقصا لا يفي تجربته حقها. رغم أني منحازة له إنسانيا لعصاميته وبداياته الصعبة، إضافة إلى انحيازي له شعريا، ثم إنّ تجربة إبداعية على امتداد أكثر من نصف قرن لا تختزل في ساعة تلفزيونية. وقد حاولت أن أستدرك هذه الحاجة إلى لقاء مطول معه بإعداد سيرة مختصرة عنه في برنامج “الملهم” وكان صعباً جداً بالنسبة لي أن أكثّف كل أزهار الربيع في قارورة عطر، لكني اجتهدت وعسى أن أكون قد وفقت بعض التوفيق.

حين شاهد قاسم حداد الحلقة كتب لي: “الصديقة العزيزة بروين: تجربتك هنا جيّدة، سعدت بها وشكراً لكونك تخصينني بمشاركتك التجربة (الملهمة) الأولى. كل ما أخشاه أنك بالغت في توصيفك الصادق لتجربتي في الكتابة والحياة. سيكون أمامك العديد من التجارب الأدبية العربية العصامية التي ستغني برنامجك، بمعرفتك الفذّة بها. أشكرك كثيراً على حلقتك (الملهم) منحتني شرفاً أرجو أن أستحقه”، وأخبرني أن ابنه محمد بكى حين شاهد الحلقة، فاعتبرت ذلك بعضا من حقّ شاعر علينا، فلا تذكر البحرين إلا وهي مقترنة بأضلاع مربعها الأربعة: إبراهيم العريض ومحمد جابر الأنصاري وخالد الشيخ وقاسم حداد.

كنت أفخر حين أراه في أي ملتقى أو ندوة أو أمسية شعرية محاطا بطلاب عرب من مختلف الجنسيات إحاطة المريدين بشيخهم، وهذا لم يأت عبثا فقد كان يُعرِّف بشعره يوم كان التواصل غير ميسور مثل الآن، فيتراسل بالبريد مع شعراء من كل أرجاء الدنيا يوصل إليهم صوته والصوتَ الشعري البحريني لغيره من الشعراء، ويتعرف على تجاربهم ويُعرِّف بها الشعراء العرب. وكان من أوائل من انتبه لأهمية الإنترنت في الوصول إلى شريحة أوسع من المتلقين، وما زلت حين ألتقي بكتاب وشعراء من مختلف البلدان العربية يذكرون – حين يعرفون أنني بحرينية – فضل موقع جهة الشعر عليهم بما كان ينشره من إبداع حداثي عابر للأجناس الأدبية. وهذا فضل أقرّ به أيضا وأذكره كلما سنحت لي الفرصة، فقد كتبت في هذه الجريدة قبل أشهر «أَدين للشاعر الكبير قاسم حداد بفتح مسالك لنا لم نألفها، وتذكيرِنا بإبداعه أن الشعر ليس ما تقدّمه لنا المقرّرات الدّراسية فقط، بل أوسع وأعمق وأجمل، فنحن الجيل الذي خرج من عباءته» كما كتبت قبلها بسنوات في كتابي “دنتيلا.. أقل من صحراء”: “أتذكّر ديوان قاسم حداد (قلب الحبّ).. قاسم لعب دورا مهمّا في تكريس تقاليد لكتابة وتذوّق واستقبال واحتضان الشعر الجديد في البحرين». وكم كنت أسعد حين ينال ما أنشره من شعر، نظرة رضا منه، فقد وقّع لي يوما على ديوانه “قبر قاسم” بهذه العبارة: “الشاعرة حين يروق لها”. واعتبرتها شهادة من عراب الحداثة في الشعر البحريني.

تعاملت دائما مع شعر قاسم حداد، كما يتعامل الفُرْس مع ديوان حافظ الشيرازي ليلة يلدا، أفتح أيّا من دواوينه على أي صفحة وأقرأ القصيدة وكأنها ورقة يانصيب ستجلب لي حظا سعيدا. كما ارتبط الليل عندي بشعره فلا أحصي الليالي التي رددت فيها قوله “ذاهب لترجمة الليل”. وما زلت إلى الآن كلما أتّجه إلى المطار مغادرةً البحرين، تئن روحي بصوت مبحوح يسكنه الحنين مرددةً قول قاسم حداد: “فقرأتُ أسماءَ النخيل/ وبكيتُ في كتف النخيل/ ورأيت أيامي الملفقة المضاعة/ كلما تمضي همستُ لها: اطمئني إنه وطني”.