يزداد زخم الحراك المطالب بحقوق الشعب الفلسطيني شدّةً مع مرور الأيام واستمرار الإبادة الجماعية في غزّة، وبالتزامن تزداد وتيرة القمع شراسة وحِدّة على مستوى الدول الغربية “الليبرالية”. في الأشهر الأولى للإبادة اقتصر الحراك في بعض العواصم الغربية على القوى الشعبية والتجمعات الأهلية، وفي الغالب كان معظمها يخرج للشارع بعفوية من باب التعاطف الإنساني نتيجة لما ينقله نشطاء غزاويون على وسائل التواصل من صور ومشاهد مروعة وكارثية، أصدرت السلطات هناك عقوبات شتى، واستحدثت بعض اللوائح القانونية للحدّ من هذا الحراك العاطفي الإنساني المتصاعد، ولم توفر كذبةً إلا واستخدمتها عن طريق أدواتها الإعلامية. أما اليوم فقد انتقل الحراك – عندهم – مع استمراره من مستوى التعاطف الإنساني الى مرحلة الوعي والتوعية بمشروعية القضية الفلسطينية، وبدأ الحراك يأخذ طابعاً أكاديمياً ثقافياً من داخل الجامعات والمراكز العلمية العريقة، وقد أطلقوا على هذا الحراك الفكري الثقافي الإنساني اسم “انتفاضة”.
بينما كانت الآلة الإعلامية الغربية على مدى عقود تشوّه صورة العربي والفلسطيني خصوصاً، كان ثمة شخص أكاديمي مثقف يعمل بصبر كبير وتؤدة على تفكيك الصياغة التي بنيت عليها المفاهيم المغلوطة، يكشف النقاب لهم شيئاً فشيء عن الحقيقة المستترة خلف قناع الزيف والكذب. كان مفهوم الإنتفاضة من بين المفاهيم التي عمل عليها إدوارد سعيد بصبر وتحدي وذكاء بالغ. جائت انتفاضة الحجارة 1987 مزلزلة، فعملت البروباغاندا على تشويهها واختزالها في مجموعة مخربين يلقون الحجارة والزجاجات الحارقة، بدوره عمل سعيد جاهداً على ايصال الفكرة الحقيقية للإنتفاضة وجوهرها الحقيقي وتأثيرها الكبير، يقول سعيد عن الإنتفاضة أنها: “إبداع لكينونة سياسية رمزها الحجارة. إنها إبداع لقوة بديلة، لايمكن تشغيلها أو إطفائها…إنها حركة ثقافية، تقول إننا لن نتعاون، ولا نستطيع الإستمرار بالعيش تحت الإحتلال، ولذلك علينا إعالة أنفسنا بأنفسنا” ( السُلطة والسياسة والثقافة/حوارات مع إدوارد سعيد ص159 )
تُرى هل أدرك الطلبة وأساتذتهم مفهوم سعيد للإنتفاضة؟! لا أعلم، ولكن اخيار “انتفاضة” كإسم أو عنوان لحراكهم في الجامعات الأمريكية بالذات التي درَس ودرّس فيها سعيد لم يأتِ من فراغ، إن انتفاضة الطلبة في الجامعات الغربية حراكٌ وقوة لايمكن تشغيلها أو إطفائها وأنها حركة ثقافية تعلن رفض الإحتلال وعدم التعاون معه ورفض إمداده بالمال والسلاح. هذه مطالب الطلبة كما أعلنوها صريحاً منذ بداية حراكهم ونجد أنها تتقاطع الى حد كبير مع المفهوم الإدواردي للإنتفاضة، قد يترجِم هذا التصور بنفسه معنى الحراك الحاصل وتعاطي قوى الأمن الشرس معه في قمع الإحتجاجات وفض الإعتصامات بقسوة غير مسبوقة في بلدان تغنت دائماً بالحرية، مقابل إصرار الطلبة على العودة والتخييم مرةً بعد أخرى، تعيد الدور المهم للقوى الطلابية المثقفة والمتعلمة بعد سنين طويلة من الغياب وعدم الإهتمام بالقضايا العالمية ولإنسانية منذ ثورة الطلبة والعمال في أوروبا عام 1968.
لم تكن الإنتفاضة الطلابية المستمرة في قلب العواصم الإمبريالية مقتصرة على الطلبة فقط، بل أنها تحظى بمشاركة فاعلة من كبار الأساتذة في الجامعات وأعمدة الكليات التخصصية مثل عميد كلية الفلسفة في جامعة إيموري البروفيسورة نويل مكافي التي تعاملت معها قوى الأمن بقسوة بالغة وهي امرأة في حدود الخمسين من العمر، وبروفيسورة الإقتصاد كارولين فوهلين التي شاركت في اعتصامات الطلبة وعندما حاولت تخليص أحد الطلبة من قسوة الشرطة بشجاعة تعرضت هي الأخرى للضرب والإعتقال، إنها بهذا الدور تمثل المثقف المشتبك في أبهى صوره وكما يجب أن يكون. ولاننسى الأكاديمي النشط المناهض للإبادة الصهيونية كورنيل ويست ودوره الكبير في تحفيز الطلبة وتشجيعهم على الإستمرار ودعمهم وإلقاء الخطب الحماسية.
يقول إدوارد سعيد:” الإنسانية هي المقاومة الوحيدة أو يمكنني القول إنها الأخيرة في مواجهة الممارسات اللا إنسانية والظلم المشوه للتاريخ البشري”.
هكذا إذن انقلب السحر على الساحر أصبحت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة مكاناً للإنتفاضة الشعبية والأكاديمية الثقافية المناهضة للصهيونية بجديّة وإصرار وشجاعة، وكلما اشتدّ الحراك ازدادت قسوة رجال الأمن وازدادت عجرفة السياسيين المُمَوَّلين صهيونياً، ولكن صوت الشعوب أقوى وأكثر ديمومة. أما شعوبنا العربية فقد ظهرت ضعيفة مستضعفة أو مغيّبة في غمرة الإستهلاك والترفيه غائبةً عن الوعي بعيدةً عن التأثير، لاصوت لها في هذا المعترك التاريخي العظيم فهي مرة أخرى خارج التاريخ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعلى المستوى السياسي بدأت بعض الدول الغربية تعلن صراحة اعترافها بفسلطين كدولة لها الحق أن تكون مستقلة، وقد بدأت دول مثل: إسبانيا والنرويج وأيرلندا وبلجيكا إعلان هذا الإعتراف، في تحدٍ لهيمنة الفيتو الأميركي على القرار الدولي. كلما صعّدت فرنسا وبريطانيا صوتهما لصالح الإحتلال صعّدت إسبانيا وأيرلندا صوتهما لصالح استقلال الدولة الفلسطينية مايعني أننا أمام تحوّلات وتشكلات جديدة في موازين القوى بين الدول الغربية بالمعنى الحديث والدول الأوروبية بالمعنى القديم. والغريب جداً دور الدول الأسيوية الكبرى كالصين واليابان ممالايحدث، هل أن الأسيوي الشرقي الذي يكدح طول حياته لا دور له يُذكر خارج المصنع أو بعيداً عن الآلة! يقول ماركس:”الفقر لايصنع الثورة، إنما وعي بالفقراء هو الذي يصنع الثورة” هذه إشكالية في محل نقاش وبحث…
ليت إدوارد سعيد حيّاً ليرى نتاجه الفكري في معاقل الإمبريالية الغربية ومفاهيمه التي بذل حياته في نحتها والتنظير لها من مثل: المثقف المشتبك، الإنفاضة الثقافية، المسألة الفلسطينية، الثقافة والإمبريالية…الخ، تجتاح الجامعات الغربية بقوّة وعنفوان. أراد سعيد أن يجمع بين الأكاديمي الباحث المجتهد والمثقف الثوري المرتبط بقاعدة اجتماعية يؤازرها ويرفع بإسهاماته شيئاً من الظلم عنها ويرسل صوتها للعالم. المثقف في تعريف سعيد هو ثوري حركي وتقدمي مهتم بالقضايا الإنسانية، بمعنى آخر يساري معارض لليمين.