السوريالية في مجموعة (النافذة كانت مشرَّعة) للقاص جعفر الديري

0
43

لمَاذا يستخدم الكاتب العربي الأفق السوريالي بانثيالاته العفوية البعيدة عن  رقابة  العقل والمنطق والمتمركزة في بؤرة اللاوعي؟ هل من أجل صيرورة النص مساحة حلمية عجائبية تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والأخيلة المجنحة لتعكس موقف الكاتب إزاء الحياة والكون؟ أم ليكون النص برمّته واحة مثقلة بالترميز حدَّ التلغيز والغموض حين تنغلق منافذ النص المسكوت عنه؟ كلُّ هذه الأسئلة وسواها كثير قفز إلى ذهني وأنا أتأمَّل المجموعة القصصية (النافذة كانت مشرَّعة) للقاص جعفر الديري الصَادرة عن دار الوطن البحرينية عام ٢٠١٣ التي غلف قصصها الـ ٤٢ الفضاء السوريالي بكلِّ فيوضَاته المدهشة المبتكرة.

الطاووس

سأتوقَّف على سبيل المثال عند قصة ( الطاووس، ص ٢١) التي عكست البوح الذاتي للشخصية المتحرِّكة على مسرح النص أفقا سورياليا: “عندما أجلس فوق الكرسي، أيُّ كرسي أشعر وكأنِّي عنقاء تخشى الناس كل الناس !أن تلقي عليهم حجراً ضخما يقتلهم! شعور لم يفارقني منذ طفولتي.  بالأمس ذهبت لرؤية أحدهم … انتظرت في فناء الشركة على أمل أن يأتي، لكنه تأخر كثيراً، هممت بالاتصال به لنهره، حين ظهر رجل سمين الجسم في صورة مدهشة ، سألته عنه فاخبرني انه في إجازة .غضبت وألقيت نفسي على الكرسي، ورحت أتحوَّل شيئا فشيئا إلى طاووس وأغيب عن الوجود، حتى أيقظتني أنثى مجرد أنثى، من سباتي. سقت السيارة، وأنا لا أكاد أتبيَّن دربي، كأنَّما في عنقي طائر مقيَّد يحاول الإفلات من قبضة فمي! لم يكن هناك موعد سوى الوهم حين يتملكني وأنا على الكرسي”.

يشكِّل الكرسي عتبة دلالية مغلقة يبدأ بها المتن “عندما أجلس فوق الكرسي، أي كرسي”، ويختم بها “وأنا على الكرسي” ليمنح الأنا السَّاردة أكسير الحلم والقدرة على التحولات السوريالية،  فهي تارة (عنقاء ) إلا أنَّ المتخيل السردي ينزع عنها ترميزاتها الفلكلورية العجائبية لتكون مخلوقا منفصلاً عمَّن حوله حد الهلع “تخشى الناس كل الناس”، وتارة أخرى (سيزيف) إلاّ أنه ينفلت من ملامحه المألوفة  ليغدو عدائياً يصبُّ جام غضبه على من حوله “أن تلقي عليهم حجرا ضخما يقتلهم” بل ان الجملة الوصفية التي تعيد المتن إلى مهد الطفولة تكرِّس هذا الانسلاخ النفسي الحَاد عن الآخر “شعور لم يفارقني منذ طفولتي”، وتارة ثالثة طاووسا ( العَنوَنة ) لتكريس الاحساس بالكبر والخيلاء، وتارة رابعا كائنا غرائبيا “كأنَّما في عنقي طائر مقيَّد يحاول الإفلات من قبضة فمي!” يكشف التمزقات النفسية للأنا الساردة ورغبتها العارمة في تكسير قيود الصمت التي ضربتها الذات على نفسها، أضف إلى ذلك أنَّ تلك التحوُّلات فضحت شقاء الذات المغتربة عن ما حولها ومن حولها وتفاهة أحلامها المتموضِعَة في (الكرسي).

ذو النابين

تضيء استهلالة قصَّة ( ذو النابين ، ص٣٣ ) تحوُّلات جسمانية في طبيعة الشخصيات المتحرِّكة على مسرح النص من أجل تكريس إدانة العنف الجسدي وطبيعة الثقافة الأبويَّة التي تبيح هذه الممارسة، تأمل الآتي: “وجدته ممسكا بعصا غليظة، ينهال بها ضربا على زوجته ، كان قد نبت له نابان غريبان واتسعت عيناه كثيرا ، حتى جسمه أصبح أكثر طولا وأكثر صحَّة، بل ان الحدبة التي في ظهره كانت قد اختفت، أمَّا زوجته فأمست سوداء البشرة بعد بياض، ونبتت لها أصبع سادسة في راحتيها”.

من الواضح أنَّ البعد السوريالي يكشف الوجه الشرس للزوج الذي تحوَّل إلى حيوان مفترس بدلالة العنونة ( ذو النابين ) الصُّورة المجازية ( ينبت له نابان) لتكثيف الشراسة بل ان المتخيل القصصي يكرِّس التفوُّق الجسدي للزوج “حتى جسمه أصبح أكثر طولا وأكثر صحة”، في مقابل الاستسلام الكامل للزوجة التي تحوَّل لون بشرتها من البياض الى السواد – إشارة الى شدَّة كظم الغيظ – ونبت لها إصبع سادسة في راحتيها،  لتكريس الرغبة في الدفاع عن الذات .

كما يبوح المشهد التالي عن عجز الراوي في إيقاف هذه الحدث: “اندفعت بكلِّ قوتي لكي أمنعه من الضرب، لكنني لم أستطع أن أزيحه قيد أنملة، تصلَّب مثل جذع نخلة، وراح يضرب الزوجة وهي تحاول الفرار ولات حين مناص”، لتتكرَّس رغبة النص في إدانة الثقافة الأبويَّة التي تبيح للرجل تعنيف المرأة جسديا. إلا أنَّ المتن يشاكس أفق توقُّع القارئ حين تنعطف قاطرات السرد باتجاه مغاير إذ يرد على لسان الراوي: ” تقدم ناحية السيّارة بخطوات متردّدة وولجها وقد بدا القلق جليا عليه …

– إنها ليست بالبيت.

– عال … لقد خدمتك الظروف إذن.

–  لكن عندما تأتي.

–  أنت مطلوب في كلتا الحالتين يا صديقي”.

من الواضح أنَّ مرايا السرد تكشف انسلاخ الشخصيَّات من أفقها السوريالي لتعود إلى واقعيتها اذ ينسلَّ الرجل بغياب زوجته “بخطوات مترددة” وقد بدا “القلق جليا عليه” لتختفي أنيابه وتعود إليه الحدبة، بل ان الحوار الخارجي بينه وبين الراوي يدير كاميرا النص باتجاه تكريس ملامح الزوجة الغائبة المستبدَّة المتسلطة، وعزَّز ذلك مونولوج الراوي في خاتمة القصة التي أدانت هذه العلاقة المقلقة الملتبسة، وأدانت التعنيف الجسدي والنفسي: “أخرج علبة السجائر، وراح يدخن في شرود، ورجعت استرق النظر اليه، وقلبي يتمزَّق ألما من أجله، إن الانسان يمتلك طاقة عجيبة على الصبر وإلا لما احتمل هذه المرأة الغول!” زد على ذلك أن إغلاق القصة على  عبارة “المرأة الغول!” شكلت مفتاحا سورياليا يعيد القصة إلى استهلالتها لنكون إزاء  الزوجة الشرسة في مقابل الزوج المستلب المنتهك إنسانيا.

بثين

وتفتح قصة (بثين، ص ٧٤) أفقا سورياليا جديدا يرتكز إلى الذاكرة الشعرية العربية إذ يتمرأى على عنونتها وجه بثينة معشوقة جميل، زد على ذلك أن الترخيم اللغوي للاسم ( بثين ) يحيل الى تفاصيل قصة العشق العذري بينهما، تأمَّل مثلا استهلالة القصة التي انتظمها البوح الشعري النازف للأنا السَّاردة التي تقّمصت شخصيَّة جميل: “مكان الروح ليس هنا، فقد تقلبت على الجمر، كطائر ترك أنثاه وهرب الى البعيد، لا تلوميني يا بثين ! كنت كمن سقط من علٍ، كانت عيناك تبتسمان، ترتجفان، وأنا أحاول اللحاق بهما .. بثين .. هل حاولت أن تنظري من سطح الدار إلى البعيد، عيناك هذا الحلم الشارد أكبر من أن أصل إليه، انه مدى لا نهاية له”.

من اللافت أنَّ صوت الأنا السَّاردة يتماهى مع صوت جميل الذي وقف عاجزاً أمام النهاية المفجعة لقصَّته وهو يرنو إلى معشوقته بثينة المبعدة قهرا عنه والتي تسيَّدت النص بصمتها وقد كرس هذا العجز قوله: “عيناك هذا الحلم الشارد أكبر من أصل إليه ، انه مدى لا نهاية له” لتتكثَّف دلالات الاغتراب النفسي والمكاني وهو ما يتعزَّز في المشهد القصصي التالي: “أفلت نجوم الليل ولا أزال بمكاني أتطلَّع إلى النخلة الوحيدة فأحسَّ كأن رئتيَّ تتمزَّقان وأساورك الفضية في جيبي تكاد تتحول إلى نمل أبيض، حتى القرط الذي أهديتك إياه لا يزال يلمع في صمت ، متحدِّيا عيني، مترسِّما سبيل من سبقني”.

أنت إزاء مدٍّ شعري تتقطَّع أوصَاله التصويرية تحت مناخ سوريالي ينمُّ عن العجز وفداحة فقد المعشوقة بل ان النخلة الوحيدة شكَّلت معادلاً موضوعيا للذات المثمرة والمتجذِّرة في المكان ، كما أنّ الصورة التشبيهية الضَّاجة بالمتناقضات – التي أظهرتها أداة التشبيه ( تكاد ) – كرَّست تحوُّلات الجمال في الماضي ( أساورك الفضية ) إلى  قبح وفناء (نمل أبيض).

يتكاثف المدُّ الشعري في المشهد القصصي التالي الذي يتنامى فيه الصِّراع الداخلي للأنا الساردة: “بثين، لا تحسبيني واعظاً تاه في زحمة الكفار، كنت كقارب لجأ للشاطىء صباحاً، فقذفته الريح إلى جزيرة لا رمل فيها، أيَّة رائحة معتمة أوصلتني إلى شجر لا ورق فيه وإلى موت متخثَّر مثل نافورة لا ماء فيها، أيَّة  امرأة نبذت ضوءًا بالغسق فاختلجت كمن يئد ابنته في التراب”.

من الواضح أنَّ الأفق السوريالي يتجلَّى عبر عدة محاور لعل أهمَّها هي الفجيعة بالحب التي تتحرَّك عبر صورة لاواقعية مستلَّة من الطبيعة، تجعلك تارة قبالة الأنوات العدائية ( زحمة الكفار + ريح عاصفة (قذفته) + امرأة نبذت ضوءًا بالغسق ) وتارة أخرى قبالة الأمكنة العدائية (جزيرة لا رمل فيها + نافورة لا ماء فيها + شجر لا ورق فيه +  رائحة معتمة ) لتكون في مواجهة النِّهاية النفسية المحتومة  للأنا الساردة ( موت متخثر ) ولحلمها ( كمن يئد ابنته في التراب).

ويفصح المشهد التالي عن هويَّة تلك الابنة الموؤدة في سياق تلقائية نفسية مطلقة تقترب من تداعي المعاني إذ يرد: “كانت الطفلة التي حلمنا بها ، تتراءى لي مثل غزالة تنتظر من يسرقها .. أي روح تبدت من خلال الشفق، فدفعت بي إلى مكان الجان ، أي عنق أبيض تفجر بالدم أغراني أن أتنكَّب الطريق” من الواضح أن المتخيل  السوريالي يجعل من المتن صورة بصرية غرائبية تضجُّ بالألوان الدَّالة على الفجيعة ( الشفق + عنق أبيض تفجر بالدم أغراني) لتكون ( الطفلة الموؤودة / الحلم ) بؤرة المشهد (غزالة تنتظر من يسرقها) وهي بؤرة تنقل قاطرات النص صوب الأنوات العدائية التي ظلَّلت قصة العشق بالعتمة. تأمل المشهد التالي: “رأيتهم ينتهبون الأرض يبحثون عن أوّل من سلك الطريق، تراءيت مثل خيمة ترتفع إلى السماء ثم تهوي، التقطتك ، …. ، يا بثين ، كنا جلوسا نعاقر الخمر ، نكاد نتمزَّق مثل موت يأخذ فرحه من عيون الغيد ، كانت وجوه من معي تشبه من سلك البحر دون ربَّان ، أما أنا فكنت أخفي وجهي عن عصابة كانت الثقوب في أجسام أصحابها قد ساحت على الأرض وملأت المكان وتسرَّبت إلى خارج الدار. كانوا يلهون بانتظار الموت” من اللافت أن صياغة المتن في تداعيات صورها المشتبكة دلاليا وبصريا تهب المتن بعداً غرائبيا يعكس محنة العاشقين، وتتكثَّف هذه العتمة بتقنية تداعي المعاني إذ تفضي كل صورة بصرية الى أخرى، لاحظ مثلا كيف توقد عبارة (الجمرة) في اللاوعي الإبداعي وجه بروميثيوس إلاّ أن السياق ينزع عنه دلالته المألوفة ليمنحه ملامح جديدة ونهاية مفجعة مغايرة على يد تلك الأنوات العدائية المنشغلة بقتل أول من سلك الطريق”  و”كانوا يلهون بانتظار الموت”، تأمل الآتي: “كانت آذانهم مثل جمرة استيقظت من نومها للتو، ذكَّرتني برائحة ابن أوى حين ينقلب الى ذئب ، حين رأيتهم يتباهون بقتل أوَّل من سلك الطريق، كانوا يضحكون وكان مردة سود تتراقص حولهم ، وحين أمسك الأبله – أواه يا بثين – بفتيلة المصباح كي يشعل النار، أطبقت عليه النار، فررنا منه ، فاندفع إلى خارج الخيمة، جرينا وراءه ألقينا عليه كل ما لدينا علّ النار ترفق به، لكنه ألقى بنفسه في البئر، وبقيت النار تشتعل في جسمه حتى طفى على سطح الماء جثة هامدة”.

أنت إزاء عدائية غرائبية جديدة مستجلبة من النار التي كانت وسيلة بروميثيوس لنقل المعرفة للعالم ، إلا أنَّ المتخيَّل السوريالي يخلق من النار عدوَّا لبروميثيوس الذي لم ينج من الذين يتباهون “بقتل أوَّل من سلك الطريق” بل ومن النار نفسها لتتحوَّل بهجة الضوء إلى دخان وعتمة مطبقة، وتكمن المفارقة في أن جسد بروميثوس الباحث عن الخلاص من العتمة والذي وصفه المتن بـ (الأبله) تلتهمه النار فيطفو “طفى على سطح الماء جثة هامدة” ويغوص المتخيَّل السردي في تفاصيل القصة لتجد نفسك أمام أجواء عجائبية تنخرط تحت مظلَّتها كلُّ عناصر القصة بلا استثناء، لاحظ مثلا كيف تستبطن الأنا الساردة  ذاتها المكبوتة: “ألفيت جسمي يتحول شيئا فشيئا إلى لا شيء ، كنت أصرخ دون أن يسعفني أحد ، كنت أناديك ولم تسعفيني، كنت أتأمَّل في كفيَّ وهما تتحولان إلى ضباب” أنت إزاء صور شعرية بصرية سوريالية ترتكز إلى تحولات كابوسية تنجح في أن تطلق الذات من إسار الجسد “جسمي يتحوَّل شيئا فشيئا إلى لا شي + كفي وهما تتحوَّلان إلى ضباب” لتكون إزاء محنة الضَّياع والوحشة المطلقة  لجميل بغياب بثينة إلا أن المتخيل السردي يشاكس توقَّع القارئ إذ ينقله برشاقة من لاوعي الحلم إلى الواقع في سياقات مربكة ملغزة، تأمل  المشهد التالي: “حين استيقظت خرجت فوجدت الناس جميع الناس ينظرون ناحيتي، ويهربون كانت صرخاتي قد أفزعتهم ، كانوا يشاهدون اثنين يجريان، واحد إلى جهة اليمين والآخر إلى جهة الشمال، كأنَّ رأسي ينهدل على  كتفي وآخر أمسكه بأصابعي، هربت فوجدتني أدخل في النفق نفسه، أرتفع إلى سقف السماء ثم يلقون بي إلى النار” من الواضح أن المتن يسلب اليقظة مدلولاتها الواعية (استيقظت) ليعود إلى  كابوسية الراهن من خلال  استبطان الاغتراب النفسي الحاد عن الأنوات المتحرِّكة على مسرح النص بل ان المتن يوظِّف لامعقولية  التراكيب  لتكثيف انفصال الذات الحاد عن الراهن المعاش المرموز له بـ (النفق نفسه) والجحيم الذي وجد نفسه محشوراً في خضمّه (يلقون بي الى النار).

لمَاذا يستخدم الكاتب العربي الأفق السوريالي بانثيالاته العفوية البعيدة عن  رقابة  العقل والمنطق والمتمركزة في بؤرة اللاوعي؟ هل من أجل صيرورة النص مساحة حلمية عجائبية تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة والأخيلة المجنحة لتعكس موقف الكاتب إزاء الحياة والكون؟ أم ليكون النص برمّته واحة مثقلة بالترميز حدَّ التلغيز والغموض حين تنغلق منافذ النص المسكوت عنه؟ كلُّ هذه الأسئلة وسواها كثير قفز إلى ذهني وأنا أتأمَّل المجموعة القصصية ( النافذة كانت مشرَّعة ) للقاص جعفر الديري الصَادرة عن دار الوطن البحرينية عام ٢٠١٣ التي غلف قصصها الـ ٤٢ الفضاء السوريالي بكلِّ فيوضَاته المدهشة المبتكرة.

رائحة البارود

تكوّن قصة (رائحة البارود، ص ١٩) مرايا سوريالية تعكس ما يحصل على مسرح النص ، تأمَّل التالي ولاحظ كيف استطاع وعي الشخصية الرئيسية أن يفتح صورة الحدث التراجيدي عبر دايولوج مع الأنثى المكتنزة بالرمز:

– لو انك لمست بيديك جماجم الموتى، لما كان مكانك سوى السحاب!.

– لقد شاهدت من الأهوال ما يروِّع أمة بأكملها.

يفضي هذا الحوار إلى سلسلة أحداث محمومة (شاهدت من الأهوال) وشخصيات وقعت صريعة الحدث التراجيدي (جماجم الموتى) ويفتح سيلاً من التأويلات التي يكثفها المشهد التالي : “تطلعت ناحية اليمين رأيت الجنود وقد شدُّوا بالحبال مثل قطيع غنم ، وجوههم مسودَّة وأجسامهم ضعيفة حتى أيديهم لا طاقة لهم على رفعها. لقد ترك الحارس الحبل وراح يدخِّن يقينا منه بضعفهم، أمَّا أنا فكنت هنا على هذا الجسر، انتظرهم بفارغ الصبر ، مؤملا رؤيتهم في حال أفضل، صدمت حتى شعرت بالغثيان، كانت سحناتهم أشبه بلون الضباب بحركة عقرب تدوس على رأسه بنهر مليء بالأوساخ وسمكة متعفنة في جوف سمكة قرش، احتضنتهم واحدا واحدا لكن أحدا منهم لم يتعرف علي، رغم اني ناديتهم باسمائهم”.

يضع المتن أمام التلقي عدة عتبات سوريالية تقودك بدقة نحو النص المسكوت عنه، فتارة  تبدو العتبة  مرئية  ضاجة بالحياة وتناقضاتها فثمة الحارس المتيقن من انتصاره “ترك حبله وراح يدخن” في مقابل الأنوات المهزومة المنكسرة المتيقنة من هزيمتها “يقينا منه بضعفهم + كانت سحناتهم أشبه بلون الضباب” بل ان صرخة الأنا الساردة  تنجح في تكريس الوحشة والانكسار “احتضنتهم واحدا واحدا لكن أحدا منهم لم يتعرف علي ، رغم اني ناديتهم بأسمائهم” إلاَّ أن الصورة البصرية المركَّبة تكثِّف سوريالية الأفق “بحركة عقرب تدوس على رأسه بنهر مليء بالأوساخ وسمكة متعفِّنة في جوف سمكة قرش” ويمعن المتخيل القصصي في صياغة جورنيكا معاصرة حين تطلق الأنا الساردة صرخاتها المبلَّلة بالدمع ، تأمل الآتي: “كيف لك أن تعرفيني على حقيقتي، أنا الذي شهدت ما لم تشهديه؟ كيف يكون شعورك وأنت تحملين ذراع صديقك من على الأرض ؟ كيف لعينيك أن تتحمَّلا رؤية الدم متفجِّرا من عينيه ؟ كيف لك أن تميزي الموسيقى المنبعثة من جرح غائر في البطن ؟ كيف لك أن تتخيلي نفسك محصورة بين عمودين ! وكيف لك أن تتحملي الجلوس مع رجل ممتلىء بالمشاهد، حتى تكاد تخرج من فتحات وجهه. تقرئين كتابك وأنت تسرحين شعرك ، تركضين على هذا الجسر وتمرحين، تدَّعين أنك ذو علاقة طويلة معه منذ كنت في السابعة ، وأنت الآن في السابعة والعشرين لكنك لا تعلمين ماذا يشكل هذا الجسر؟!”.

من الواضح أنَّ المتخيَّل القصصي استبدل تدرجات السَّواد في غرنيكا بيكاسو بالتدرُّجات الواضحة للحمرة القانية وعبر العتبات الدلالية القائمة على شراسة الصورة البصرية “وأنت تحملين ذراع صديقك من على الأرض + رؤية الدم متفجِّرا من عينيه + الموسيقى المنبعثة من جرح غائر في البطن + تتخيِّلي نفسك محصورة بين عمودين”.

ويكثف المتخيل القصَصي الأفق السوريالي حين يستدعي (الأنثى/ العرافة) التي تكرِّس عجائبية الأحداث، إذ يرد : “وقفنا بانتظار الباص ، قالت ساخرة : لن تعودوا إلى بيوتكم !” وكأنَّ نفي المستقبل ( لن ) يحرِّك قاطرات النص ليس إلى المستقبل بل إلى الحدث المنصرم لتكون تلك الـ( لن ) مفتاحا لبدء القصة لا لخاتمتها. تأمل المشهد القصصي التالي :”أسبوعا لا غير ، لكنه كان كافيا لحرقنا ، يحيى كان الوحيد الذي سمع كلامها ، فترجل من الباص ، سخرنا منه ومن جبنه ، تندَّرنا عليه ، جعلناه أضحوكة ، لكنني عدت بكف واحدة وعين لا ترى ونصف لسان” من الواضح أن مرايا النص تكثف ملامح الأنا الساردة “عدت بكف واحدة وعين لا ترى ونصف لسان” المرتكزة إلى تنبؤ العرافة “قالت ساخرة لن تعودوا الى بيوتكم” إلا أنَّ المتخيل القصصي منح الذات الناجية اسما دلاليا (يحيى) لتتكشف الطبيعة الترميزية للباص ( المكان الملغوم بالموت) إذ منحت النبوءة (يحيى) طوق نجاة ، تأمل الآتي “أما هو فظل في أبهى صورة . ازداد وسامة وجمالا ، وانجب ابنتين فيما بقيت أنا لا أحد معي ولا شيء”.

مشولع

وتصوغ قصة (مشولع، ص 99 ) أفقا سورياليا يماهي بين الزمان والمكان وبين الوعي واللاوعي، تأمَّل مثلا استهلالة القصة التي ترد من خلال وعي الراوي : “لماذا تعلو الغيمة ثم تهبط؟ لماذا تهبط ثم تعلو؟ لماذا ترسل ضوءًا ثم تختفي ؟! سأل رفيقه المستلقي على تراب الصخير الندي تحت ضوء القمر وسط نسيم مسكر فزفر ضجراً من أسئلته!  ليس مجنونا ولا صاحب كرامات ، لكنه يحب الموسيقى”.

من الواضح أن الراوي يدخل طرفاً مهمَّا في المشهد القصصي إلا أنه راو فقد قدرته على التأويل أو التنبؤ بما سيحصل أو استبطان مصائر الشخصيات المتحركة على مسرح النص ، فالراوي يحمل كاميرا السَّرد ليسلط الضوء على شخصيتين : الأولى صامتة تماما “المستلقية على تراب الصخير الندي تحت ضوء القمر وسط نسيم مسكر” مكتفية بتأمل ما يجري دون أن تنبس ببنت شفة، إلا أن  كاميرا الراوي تتابع الشخصية الأخرى التي  تراقب ما يحصل بفيض من التساؤلات الحائرة بحثا عن الحقيقة في جو مربك وملتبس أضاءها الحوار الخارجي “لماذا تعلو الغيمة ثم تهبط ؟ لماذا تهبط ثم تعلو ؟ لماذا ترسل ضوءا ثم تختفي؟!”، أضف إلى ذلك أن الراوي يقدم تبريراً “ليس مجنونا ولا صاحب كرامات ، لكنه يحب الموسيقى” إلا أن الصورة الشعرية السمعية البصرية المتمحورة حول  جهاز الايفون في المشهد التالي : “ضغط على الآيفون ، فانساب الصوت سماويا ، لم يعجبه مستواه رفعه حتى ضج الفضاء به أحسَّ وكأنَّ النجوم ترقص معه…” كثَّف حضورها المباغت الأفق السوريالي الذي يجعل من (رقص النجوم) عتبة تستلهم حضور زوربا المستلِّ من الذاكرة السينمائية الموسيقية ، تأمل المشهد التالي:

– “يا زوربا الطيب ليتك تعلُّمني الرقص؟

وقف أمامه وسأله السؤال نفسه …

– لماذا تعلو الغيمة ثم تهبط ؟ لماذا تهبط ثم تعلو ؟ لماذا ترسل ضوءًا ثم تختفي ؟!

– كنت أسال للتو رفيقي قبل أن تشرفني بحضورك ؟

رماه برائحة نفاذة أطارت حاجبيه ، سقطا إلى الأرض ، نزل وركبهما من جديد ، هو شاب أجرد لا شعر في جسمه من رأسه حتى أخمص قدميه…

– نكاية بك سأرقص ..

ظلَّ يطالعه بعينه اللتين تشبهان نافورتين في بركة واسعة ، ثم أخذ هو الآخر بالرقص”.

من الواضح أن المتن يعكس ملامح الأنا الساردة “هو شاب أجرد لا شعر في جسمه من رأسه حتى أخمص قدميه…” وهو تحوُّل يبرِّره زوربا نفسه إذ يحاور الشخصية المتسائلة:

– أتعلم أني كنت غليظا مثلك!.

– وكيف تخلصت من وزنك؟

أجابه بصوت يشبه صوت المتنبي في حضرة خولة أخت سيف الدولة…

– إنه الحب يا فتى.

أطلق ضحكة ضجت لها الأرض تحته ، حتى تشقَّقت وخرج منها غيلان ثلاثة أشبه بالنمور…

– اركضوا وراء هذا الأفَّاق … اركضوا

– يا سلام عليك يا أخي … ألا تقبل مزحة أبدا.

لكنه ظل يعوي … تحوّل إلى نسر ثم إلى ورقة ثم إلى فهد … ثم إلى قطة ، ثم إلى فأر ، انتظر الفرصة وابتلعه”.

من اللافت أنَّ كاميرا الراوي عكست تحوُّلات زوربا الذي سلبه السياق القصصي ملامحه المألوفة ليمنحه ملامح جديدة عجائبية تتجلَّى في “ظلَّ يعوي  … إلى نسر ثم إلى ورقة ثم الى فهد … ثم إلى قطة ، ثم إلى فأر” وقد وقفت عبارة ( انتظر الفرصة وابتلعه ) لتشاكس أفق التلقي الذي بقي عاجزا عن تفكيك شفرات النص المسكوت عنه إلا أنَّ المتن يعود إلى الشخصية الصموت لاستنطاقها ، تأمل المشهد التالي:

– أمر مدهش أليس كذلك ؟

سأل رفيقه المستلقي على تراب الصخير الندي.

– ماذا تقول ؟

– لا شيء …عليك اللعنة من ابن آوى لا أخلاق له.

–  لكنك وعدتني أن تذهب إلى خيمتها.

تململ في جلسته .. بكى.

– وعدتني وها أنت تحنث بوعدك.

صَاح غاضبا:

– ماذا يعجبك فيها؟

– الآن بعد أن حلَّقت روحي تسألني هذا السؤال ؟

ضرب كفا بكف وراح يقفز كالقرد…

– أكلّ هذا من اجل امرأة ؟؟

– اللعنة عليك … أنت تعلم أنِّي أحبها حقا.

– وما هو الحب؟

من اللافت أن الحب يشكِّل البؤرة التي تعصف بالمتن فيتصاعد دلاليا باتجاه الأفق السوريالي الذي يكثِّف الغموض الملغز العصي على التأويل ، وهو غموض  يستبطن الشخصيات التي بقيت مطلقة وبدون أسماء أو ملامح واضحة ، فالشخصية المستلقية على التراب  استبطنت  بشاعة الملامح  الداخلية  للشخصية المتحدِّثة “عليك اللعنة من ابن آوى لا أخلاق له  + لقد وعدتني وها أنت تحنث بوعدك”، كما  كرِّس الراوي  العليم بشاعة الملامح الخارجية لها “ضرب كفا بكف وراح يقفز كالقرد”.

ويستدعي المتخيل السوريالي (الكلب) بوصفه أداة بديلة عن الفرس وجماليتها الراسخة في الذاكرة الصحراوية العربية، هو استبدال يدخل القارئ عنوة في تقصِّي تفاصيل تلك الرحلة التي ستكون على ظهر كلب وعبر تبادل واعي بين الشخصيتين، أضف إليهما الراوي الذي كان يكمل ما غاب عن الحوار الخارجي:

” أقبل من بعيد كلب ينبح ، خاف حتى درجة الغليان…

– لقد أحضرته معك؟

ضحك لقوله ثم أمسك به ورماه على ظهر الكلب…

– إلى أين تمضي بي يا قبيح ؟

ردَّد  ضحكته  نفسها منذ أعصر سبعة..

– إلى حيث الحب الذي تنتمي!

حاول أن يرمي نفسه من على ظهر الكلب لكنه كان موثقا. بكى.. أقبلت فينوس، ما هذا الجسد وما هذا العبير؟”

من اللافت أنَ المتن يكثِّف كابوسية سوريالية لم تنجح العتبة المضيئة ( فينوس) المكتنزة بالجمال في أن تزيح العتمة عن الأفق القصصي الضاج بالسخرية المريرة من ضياع الحب في خضم عارم بالخسارات والفقدانات ، بل ان إغلاق القصة على الحوار الخارجي الذي يستدعي استهلالة القصة، يكثف التحاور الدلالي بين الاستهلالة والخاتمة لخلق قلادة دلالية متخمة بالأسئلة الحائرة الباحثة عن الإجابة ، تأمل:

– لماذا تعلو الغيمة ثم تهبط ؟ لماذا تهبط ثم تعلو؟ لماذا ترسل ضوءًا ثم تختفي؟

– أنت مجنون ولا ريب.

خلاصة القول ، فإن القاص جعفر الديري في مجموعته القصصية ( النافذة كانت مشرَّعة ) أشرع نافذة القصة البحرينية على أفق مغاير استعاد من خلاله غرائبية الأفق السوريالي وعجائبية مناخاته التي توغَّلت بمهارة لعناصر القصة فمنحتها بصمة مغايرة ونقشا في الذاكرة.