في قراءة المشهد الاقتصادي وعملية التنمية الشاملة، وحدها الأرقام والإحصائيات يمكن أن تفصح عما يراد إيصاله من رسائل ومعطيات بغرض متابعتها على الأرض، لكن بالنسبة لنا في مملكة البحرين يصعب أحيانا فهم طبيعة المشهد الاقتصادي وتوجهاته المستقبلية من خلال ما يقدّم من أرقام ومعطيات، وذلك لاعتبارات عدّة ربما لا يدركها سوى المتابع المختص للشأن الاقتصادي أو رجال الاعمال المنغمسين في دهاليز وتحديات الوضع الاقتصادي وما يحيطه من تفاصيل يومية، أو ما يعتريه من عوار وأزمات تكون أحياناً مزمنة، يبقى بعضها بدون ادنى معالجات، وذلك لأسباب مختلفة لا يتسع المقام للتفصيل فيها.
مناسبة هذا الحديث هو ما أعلن مؤخرا وعلى دفعات من معطيات وتحديثات، من قبل كلّ من مجلس التنمية الاقتصادية بداية، وهو الجهة المعنية بدراسة الوضع الاقتصادي والاستثماري في البحرين، وسرعان ما أكدها تقرير إدارة الدراسات والبحوث في مركز البحرين للدراسات.
وحتى نفهم طبيعة تلك التصريحات المتفائلة إلى حد كبير، علينا بداية أن نتفهم حق تلك الجهات في إعطاء صورة موضوعية، لكي لا نقول وردية، قدر الإمكان عن جملة من أوضاعنا الاقتصادية والتنموية. بيانات مجلس التنمية الاقتصادية لدينا تقول بوضوح إن الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للبحرين زاد من 11 مليار دولار اميركي خلال الفترة بين عام 2003 ليصل الى 43 مليار دولار اميركي في العام 2023 وبمتوسط نمو بلغ 7% متجاوزاً متوسط النمو العالمي الذي بلغ 5% ، وأن مملكة البحرين استقطبت تدفقات استثمارية اجنبية مباشرة في 2023 بلغت6.8 مليار دولارا، متجاوزة قيمة تلك التدفقات في العام الذي سبقة 2022 (مع نهاية جائحة كورونا) بنسبة 148%, بحسب تقارير الاونكتاد.
من جهته عزا تقرير إدارة الدراسات والبحوث في مركز البحرين للدراسات ذلك إلى أمور عدّة من بينها الثقة التي أوجدها برنامح التوازن المالي للمستثمرين الأجانب، وكذلك استثمار البحرين في مشاريع الطاقة المتجددة، كما أوضح أن جميع القطاعات في البحرين تستطيع استقطاب استثمارات أجنبية، وهناك أولوية للاستثمار في القطاعات الأساسية مثل قطاعات الصحة وتقنية المعلومات وغيرها، وأن البحرين باتت بيئة جاذبة للاستثمارات نظراً لما تتميز به من تشريعات متقدمة تدعم التنوع الاقتصادي المنشود!
ونحن إذ نسعد لمثل تلك المعطيات، ولا نريد أن ننفيها جملة وتفصيلاً، إلا أن الأمر يتطلب منا القول إنها ربما تبالغ، أو حتى تتعارض مع أمور ومؤشرات عديدة ومعوقات لا حصر لها، بتنا نسمعها من قبل مستثمرين، عرباً وأجانب، وفي الأغلب من تجار محليين، وحتى من قبل مسؤولين أحيانا، يتحدثون عن تراجعات واخفاقات لا حصر لها، لكن الأهم في كل هذا هو أن تلك المعطيات التي تقدّمها تلك الجهات وكأنها حقائق معاشة لا يمكن أن تصمد امام ما يتابعه الجميع تقريبا، من مؤشرات وبيروقراطية وإعاقات ووجوه فساد متعددة، علاوة على ما نشهده من مديونية عامة متضخمة وعجوزات لا نعرف الى أين تاخذنا!!
علاوة على ما يشهده سوق العمل من فوضى عارمة تستدعي مراراً وتكراراً استصدار قرارات تنظيمية لم تتوقف، في حين تستمر بشكل تصاعدي معضلة البطالة في أوساط الخريجين الشباب، وتتراجع الأجور بالنسبة للبحرينيين على أرض الواقع مع ندرة الفرص النوعية التي وعدوا بها بحسب رؤية البحرين 2030، في الوقت الذي تستشري فيه ظاهرة هيمنة الأجانب على مفاصل وقطاعات مهمة ورئيسة في سوق العمل، يقابلها تجاهل قاتل وعجز عن التشخيص الأمين لإيجاد العلاجات الناجعة القادرة على إدارة المشهد العام لسوق العمل البحريني بشكل أفضل.
وذلك ما نجد له مؤشراً واضحاً في التصريح الأخير لوزير العمل، وهو الوزير المعني مباشرة بالبطالة ودعم توظيف البحرينيين في القطاع الخاص، والذي أوضح ضرورة تحديد رخص وامتحانات لعدد من المهن الموجودة في السوق، وهو يعلم جيداً أنها مهن وحرف غادرها البحرينيون منذ سنوات للأسف نتيجة لضعف الأجور أولاً، ولإهمال تدريب البحرينيين وتمهينهم عليها ثانياً طيلة عقود مضت، ولأسباب ثقافية واجتماعية معروفة، غادروها منذ سنوات طويلة، سمح خلالها للعمالة الأجنبية غير الماهرة في معظمها بالهيمنة والتدرب واكتساب الخبرات، وترافق ذلك مع إغراق السوق حتى الثمالة بها، مما استدعى إعطاء الوافدين حق فتح سجلات ورخص عمل لدوافع غير مفهومة، وبالتالي يصبح التصريح الوزير هذا دليلا على قلة الحيلة، حيث انه لا يقدم علاجاً ولا أملاً لشبابنا بقدر ما يقدم المزيد من الإحباط ويشي بمزيدٍ من التخبط في سياسات سوق العمل، التي آن لها أن تدار بشكل مغاير، من شأنه أن يعيد الثقة في السواعد والكفاءات البحرينية ويعيد هيكلة السوق على أسس تكفل بالفعل حل المعضلة الأكبر للاقتصاد الوطني وهي البطالة، فحلّها هو حجر الزاوية لبناء اقتصاد قوي يعتمد على ما هو متوفر من أيدٍ عاملة محلية بالدرجة الأساس، ويستطيع أن يدلل على قوته وتنوعه بعيداً عن الإتكاء دائماً وأبداً على أسعار النفط التي تبقى عرضة لظروف العرض والطلب كما هو معروف.
نقولها بوضوح آن الأوان لمواجهة تحدياتنا ومشاكلنا الشاخصة بشيء من الشفافية والوضوح والمسؤولية بدلاً من الركون لمعطيات وأرقام لم ولن تقدم سوى الترويج الزائف، الذي نعلم جميعا أنه سرعان ما سيرتد مدويا باحثا عن علاجات متجذرة من تربة هذه الارض وبسواعد ابناءها!!