ما بين الرؤية رؤية

0
5

في إطار التحضير للرؤية الاقتصادية للبحرين 2050، من المهم، ان يكون هناك نقاش جاد وواسع حولها، هو من الأهمية بحيث انه يفرض حراكاً استثنائياً من قوى المجتمع ومؤسساته بحيث يكون لكل الأطراف دور ومساهمة، طالما الأمر يتصل ببلورة الرؤية المستقبلية والأولويات التى يتوجب التركيز عليها فى بناء مستقبل البحرين، ولا ننسى ان هناك توجيهاً من سمو ولي العهد رئيس الوزراء الذى حين أعلن عن مشروع الرؤية الجديدة، دعا إلى “البدء فى مشاورات مع السلطة التشريعية والقطاع الخاص والروابط المهنية والهيئات النقابية وجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني للتحضير لهذه الرؤية”، وهذا يعنى أن الحكومة وكل تلك الجهات مدعوة للقيام بدورها للمساهمة فى بلورة الرؤية الجديدة للمستقبل التى يفترض ان تشكل خارطة طريق محددة تتم مواءمتها من خلال خطط تنفيذية محددة، وآليات داعمة، وقيادات مؤهلة قادرة على مواجهة التحديات وعلى رسم وتحديد الأولويات واتخاذ القرارات الصائبة وبلورة منظومات عمل فعالة.

هذا التوجيه يعنى ضمن ما يعنيه دعوة إلى العمل المشترك، ونفترض أو نتمنى أن يعنى ذلك اعترافاً بدور المجتمع المدني فى كل شيئ بما فى ذلك المشاركة فى إعداد الرؤية المستقبلية الواعدة للبحرين والتى ينشدها ويعمل في إطارها الجميع، وذلك أمر إن تحقق كما يحب يرفع من المعنويات وروح التفاؤل فى أوساط كل البحرينيين، لأنه يبلور الأولويات والاهتمامات والبرامج والمشاريع التى يتطلع اليها الجميع، ليس فقط فيما يتصل بالوضع الاقتصادى والمعيشي للمواطن ويدفع الى ما يحقق جودة الحياة ومن ثم تحقيق ما يمكن وصفه بالمفاجأة الإيجابية، بل إضافة إلى ذلك النهوض بواقع جمعياتنا ومؤسسات مجتمعنا المدنى وإزالة كل القيود التى فرضت عليها وكبلتها وحدّت من حضورها ونشاطها فى المشهد المحلي، لذلك فإنه من الضرورة والمصلحة مراعاة ذلك وأن يأخذ ذلك التوجيه، أو ذلك الطموح مساره الصحيح من حيث الالتزام والاعتراف الحقيقي بدور المجتمع المدني ومؤسساته ولا يسقط فى حمى الشعارات الآنية والمراوحات الدائمة.

لن نجادل فى موضوع هذه الأولويات التى يجب أن تتضمنها الرؤية الجديدة، ففي ذلك مضيعة للوقت لأنها معروفة وجرى طرحها وتداولها فى أكثر من مناسبة، وعلى أكثر من مستوى وفى أكثر مؤتمر وندوة عامة، هناك أولويات فى كل شأن لا يمكن التعمية عليها أو التعامي عنها، كما لا يمكن إغفال اهمية نوعية المبادرات والمشاريع التى ستنفذ ضمن خطة عمل الحكومة، ولا بد أن يرتبط ببرنامج زمني محدد، بالإضافة إلى مراعاة تحقيق هدف الاستدامة المالية والتنمية الاقتصادية ورأس المال البشرى الوطني والرعاية الاجتماعية والكفاءة الإدارية والحوكمة والبرلمان المعتبر الذى يمتلك كامل الصلاحيات فى الرقابة والمساءلة.

 وما ينبغي التأكيد عليه أولاً بأنه لا يمكن النظر إلى بحرين المستقبل بشكل جزئي، ودون عمل تكاملي تتوزع مهامه على المؤهلين والناجحين وأصحاب الكفاءات فى كل الميادين ممن يمتلكون القدرة على رفع المعنويات وخلق عمل تكاملي بين العديد من الوزارات والهيئات والمؤسسات ومنها بطبيعة الحال مؤسسات المجتمع المدنى، وفى المقدّمة منها جمعياتنا السياسية، كما ينبغي التأكيد ثانياً بأنه لابد من مراعاة أن تكون الرؤية ديناميكية، أي ليست جامدة وقابلة للتكيّف والتطوّر والتعديل، بما يناسب المرحلة والظروف والتحديات، وهذا شيئ إيجابي وليس سلبياً إطلاقاً لأنّه يعنى أن الرؤية مرنة وقادرة على التكيّف والتغيير والتطوير ومستجيبة للفرص الجديدة والتحديات المستجدة غير المتوقعة.

كما ينبغي التأكيد ثالثاً بأن التطرق إلى مسألة التنمية عموماً حين لا تأخذ بالاعتبار الأوجه الاقتصادية والاجتماعية المتشابكة ومعها التشوهات والرضوض التى اصابت مناعتنا المجتمعية، تكون هذه التنمية قاصرة ومقصرة فى بحثها وبلوغ أهدافها المرجوة لأن شروط التنمية الحقيقية تعتبر المواطن هو المحور والأساس والهدف، وإذا كان هناك إيمان حقيقي بذلك فلابد من العمل على أساس العلاقة الترابطية بين الاقتصاد بالإدارة، بالحياة السياسية، بالاجتماع، بالقانون، بالتعليم، بالعمل، بالمنظومة الفكرية التى توجه حركة المجتمع، كما لابد من مواجهة حصيفة ومقنعة للمخزون الهائل من الإحباط والبطالة ومنظومة الفساد وكل ما يواجه مجتمعنا ويضعف معنوياته عبر مبادرات جريئة تفتح باب الأمل لرؤية مستقبلية واعدة .

كما لن نبلغ التنمية الحقيقية والمنشودة بدون تحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالى فإن الحكم العادل، والإدارة النزيهة والكفؤة، وصيانة حقوق الإنسان، وحرية الرأي والتفكير، وتكافؤ الفرص، وحيوية المجتمع المدني، وحتى حماية البيئة هى بعض الشروط المطلوبة، وعليه فإن التركيز فقط على النمو الاقتصادي لن يؤدي الى النتائج المرجوة ما لم تتحقق التنمية بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ذلك يؤدى إلى أمر حيوى ومهم هو اقتناع الجميع بأن الرؤية هى رؤية الجميع، رؤية تضع الجميع امام مسؤولياتهم.

ذلك يعنى أن الرؤية لابد أن تحيط بكل الجوانب وكل التشعبات فى وقت واحد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً و صحياً وتعليمياً وثقافياً ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً فيما بينها، وأن أي محاولة للتطرق إلى أي مسألة من تلك المسائل وبلوغ ما يحقق التنمية المستدامة وتحسين جودة الحياة، إذا لم تأخذ فى الاعتبار تلك الروابط والتشابكات فإن الرؤية تكون قاصرة ومقصرة فشروط التنمية إذا كانت تعتبر المواطن حقاً هو المحور والأساس والهدف تفرض الالتزام بكل تلك الروابط فهى التى توصلنا الى الأهداف المنشودة والتطلعات المستهدفة، ولا ننسى وجوب أن يتم ذلك وفق سياسات تتسم بالشفافية والقياس والمتابعة والمساءلة والمحاسبة والمدى الزمنى للتنفيذ لكل خطوة أو برنامج أو مشروع.

هناك جانب لم يعط حقه من العناية والاهتمام لا فى الرؤية الحالية ولا فى اي خطة او برنامج، وهو الجانب المتصل بالبعد الثقافي، الثقافة لا يجب أن تكون غائبة عن الرؤية الحالية والمقبلة، أو تكون الفريضة الغائبة عن برنامج الحكومة والرؤية المستقبلية، فالثقافة هى القوة البناءة والرافعة الأساسية للمبادرات الإيجابية ولكل ما تعتزم الحكومة القيام به من خطط وبرامج مستقبلية، فمن خلالها يمكن أن ننهض بالوعي والوجدان الوطني، ونرسخ مبادئ ومفاهيم المواطنة، هى العامل المشترك الذى تلتقى تحت ظله كل تلك الأهداف وغيرها من الأهداف والتطلعات التى تنهض بالوطن.

هناك أمر آخر مهم يجب أن يؤخذ فى الاعتبار وهو الحاجة إلى سياسات استباقية لمواجهة أي متغيرات أو تحديات محتملة بعيداً عن سياسة المسكنات ومعالجة المشكلات بنظرة قاصرة لا تجعلنا نمضي فى الاتجاه المطلوب الملبي للتطلعات والطموحات، بل تبقينا نراوح، نردد الشعارات والعناوين التى لا تنتهي صلاحيتها ولا تحقق نتائج ملموسة، ولا تؤدى إلى مخرجات واضحة لنظل نراوح مكتفين بترداد العناوين والشعارات البراقة من نوع: نحن الأحسن، نحن الأفضل، نحن فى الصدارة، نحن فى المقدمة، إلى جانب عناوين اخرى شكلية تتقنها البيروقراطية بينما واقع الحال مختلف والمواطن لا يشعر بإنعكاس ذلك على واقعه.

 إذن المطلوب هو التركيز على نوعية النمو والتنمية وليس معدلات النمو، وعلى ما يحقق الإنجازات الفعلية ويضع أسساً قوية للنجاح، ويحارب الفساد وكل أوجه الخلل والقصور والإهمال لأن ذلك يتقاطع مع أهداف اي رؤية طموحة حالية او مستقبلية، وعلى هذا الأساس لابد من الاهتمام بما بات يقاس عليه الحديث عن تقدم الأمم الاقتصادى من معايير أهمها نوعية الاستثمارات، نوعية قوة العمل، نوعية التعليم، نوعية الصادرات، نوعية التنمية والابتعاد عن المنطلقات المغلوطة للتنمية، ونكرر للأهمية انه لابد من ادراك أن التنمية عملية مجتمعية متشابكة متكاملة متفاعلة فى إطار من الروابط بالغة التعقيد من عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإدارية وتعليمية وكل ما يؤدى إلى تغيير بوصلة تفكير المواطن وتحفيزه على أن يكون متطلعاً الى وضع ومستقبل أفضل، وضع يمهد الأرضية من خانة الأحلام والتطلعات والأمنيات المستقبلية الى خانة الأفعال المدروسة المتسلحة بالعزيمة والإرادة على النهوض بوطننا على أسس قوية، ومرتكزات علمية تحقق لنا على الدوام انجازات حقيقية مستدامة يلمسها الجميع ويطمح اليها الجميع.

 ما يتوجب الإنتباه إليه هو أن التمهيد لصياغة أي رؤية جديدة يفرض قبل كل شيئ تشخيصاً جريئاً وشفافاً لمجريات وما تحقق من مستهدفات الرؤية الحالية التى تمتد حتى 2030، ما تحقق ومالم يتحقق، وتحديد المعرقلات والأساسيات ومدى فاعلية السياسات والاجراءات الاقتصادية التى تم تطبيقها منذ بداية الإعلان عن رؤية 2030، ومدى نجاحنا فى تجاوز أي عطب فى ترتيب الأولويات خاصة تلك التى المتصلة بتوظيف مواردنا بما فيه الكفاية للحصول على اكبر عائد ممكن وتفادى تناقض أحوالنا، ومدى ما وفرناه من مرتكزات ووسائل تُفعل هذه الرؤية بالشكل المطلوب والمستهدف مع تبني سياسات استباقية لمواجهة اي متغيرات او تحديات متوقعة او غير متوقعة، والاعتماد على ضخّ دماء وقيادات شابة فى مختلف القطاعات، وهنا لابد من التطبيق الصارم للتنافس الشريف فى توزيع الوظائف والمناصب فى سبيل الوصول إلى هدف الإدارة المحترفة والمتخصصة، وأن يحظى سوق العمل البحريني بالكثير من برامج الإصلاح الفعلي والتحديث الجدى بما يسهم فى تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويحقق فعلياً هدف الأولوية للمواطن البحرينى فى سوق العمل ويحقق اهداف التنمية المستدامة

من تلك النواحي، ومن تلك النقاط بالذات، ومن باب لزوم ما يلزم من الضرورى الإقرار بأهمية ارتباط كل تلك الأهداف والتطلعات بالتحلي بجرأة تقييم الرؤية الاقتصادية 2030 والوقوف على أوجه القصور والمقصّرين والمعطلين لمساراتها ومقتضياتها حتى لا نظل نتباعد فى الأهداف المتصلة بالرؤية الجديدة، ونتقاطع فى طرق تنفيذها، وحتى لا يكون محصول هذه الرؤية قشاً فارغاً بلا محصول. دمتم وعاشت البحرين.