عندما وصلَتْ طلائع المستعمِرين الى مناطقِنا كانت مثقلةٌ بأفكار المركزية الذاتية وسمو العِرق وتقدم الحضارة وأفضلية العقل، جاءت لتستحوذ على عوالمَ بلا حضارةٍ ولا هُويةٍ ولا ثقافة، جاءت بهذه العقيدة مثل الغزو، غزو عسكري وفكري، بسلاحَينِ: المدفع وبعثات التبشير بالمسيحية والمذهب الكاثوليكي غالباً. المدفع نتفهم دوره في احتلال الدول وإخضاع الأمم ولكن ما هو دور المبشرين بالدين المسيحي المتزامن مع الحملات الاستعمارية؟ لماذا لم يأتِ المستعمِرُ بقيم العقد الاجتماعي والحرية والمساواة والمفاهيم التي كانت في ذلك الوقت – منذ مطلع القرن الثامن عشر- قد حدّت من سُلطة الكنيسة وتخلصت الى حدٍ كبير من هيمنتها؟ كان للمبشِّرِينَ في الخليج دور هام لا يمكن نكرانه فيما يتعلق بالرعاية والمجال الطبي وهو ما أثار إعجاب العرب المسلمين، مع ذلك فإن “العرب المسلمين كانوا غير مستعدين لاستقبال الدعوة للمسيحيةِ بقدر ما كانوا متشوقين الى الخدمات الطبية والتعليمية التي تقدمها بعثات التبشير” (حداثة ظهرها الى الجدار/حسن مدن 115).
بعد توغّل الاستعمار أكثر في المناطق الإسلامية وجد كنوزاً معرفية وتاريخية ضاربة في عمق التاريخ، احتكر دراستها والبحث فيها وخصص لها أقساماً في جامعاته الغربيةِ المفتوحة والغرف السياسيةِ المغلقة فيما سيعرف بالاستشراق. وفي مراحل الاستعمار الأخيرة وبعد أن فشل في مشروع التبشير راح يروِّج أخيراً للتنوير الأوروبي على طريقته الخاصة، أي بالمركزية الغربية، بمعنى أنّ كل تنويرٍ غيرَ النموذج الغربي ومراحله التراتبية ليس تنويرٍاً، وأنّ المثقفَ المستنيرُ الذي يتبع غير سُبُل التنوير الأوروبي ليس بمستنير! والاستنارة في الشرق حكمة روحية عقلية تأملية بعيدة عن مفهوم ومقاصد الغرب.
بالعودة الى زمننا نجِدُ ثمارَ تلك المنهجية الغربية التي بعد عصر العولمة أصبحت تسيطر على الكثير ممن يظنون أنهم سائرون على خطى التنوير القويم وإنهم يمثلونَ المثقفَ النموذجي الشخص المنعزل النائي عن مجتمعه وقضاياهُ الحاسمةِ ويتعاطى مع الثقافة على الطريقة الرأسمالية الاستهلاكية، وقد كشف هذا النوع عن تنويرٍ مستنسخٍ غيرَ مُجدٍ واستنارةٍ زائفة، يقول علي شريعتي في كتاب “المستنير ومسؤولياته في المجتمع”: الأشخاص الذين لا يرتضون الحدود والقيود والتوقف والمراوحة ولا يفكرون بطريقةٍ جامدة، بل يفكرونَ بطريقة نيّرة متفتحة، ويشخّصونَ زمانهم وموقعهم وموقع بلادهم والقضايا المطروحة في مجمعهم، هؤلاء هم المستنيرون. خلافاً لذلك الشخص الذي تنتصبُ أمامه كل هذه القضايا وتطرح في مجتمعه وحياته لكنه لا يفهمها ولا يدري أنها ذات صِلَةٍ بحياتِه. إنه لا يدرك كل هذا ويقول لا علاقةَ لها بي والحال أن لها علاقةٌ مباشرةٌ به، هذا الشخص ليس مستنيراً.” (17)
إذن نحن إزاءَ تنويرٍ غربي مخادع واستنارةٍ زائفةٍ ومستنيرونَ حقيقيِّونَ يبحثونَ في قضاياهم الوجودية والمعرفية بانفتاح وعقلانية متناسبة مع الظروف الاجتماعية. يميز د. حسن مدن في كتاب “حداثة ظهرها الى الجدار” بين التكنوقراطي أي تقني الثقافة والمثقف بالصورة العامة إذ يقول:” لعله هنا يكمن الفرق بين المثقف وتقني الثقافة، والمعيار ليس الشهادات فهي لا تجعل من المرء مثقفاً مهما على مستواها. المثقف هو من يوظف رأسماله الرمزي: أي عمله وثقافته، اجتماعياً. أما التكنوقراطي فيظل أسير وضعه المهني.” (279). ويذهب شريعتي الى أن التنوير ليس حكراً بالضرورة على طبقة معينة ولا على شاكلةِ نمطٍ غربي محددٍ سلفاً، الطبقةُ المتعلمة المثقفة “الإنتلجنسيا” التي هي عبارة عن جماعات متنوعة تمارس عملاً فكرياً معيناً مثل: المعلمين، المحامين، المهندسين، السياسيين، الأطباء، رجال الدين…الخ، تختلف – كثيراً في نظر شريعتي – عن المستنير، إذ ليس المستنيرُ بالضرورة هو الشخص الذي يمارسُ عملاً فكرياً ولا العامل الذي يمارس عملاً يدوياً مع فرض التداخل فيما بينَ العمليْنِ (الفكري/اليدوي)، إنّ الشخصَ الذي يفكر بطريقة مستنيرة نيّرة يقرأ ويحلل ويربط ويفكك ويهتمُّ كثيراً ويفهم بصورةٍ جيدة مهما كان عملُهُ المِهَني هو الذي يمضي في طريق التنوير.
بالرجوعِ الى التبشير ودعوة المسلمين الى الدين الكاثوليكي، في العمقِ هو أيضاً صادرٌ عن مبدأ المركزية والأفضلية العِرقِيّةِ والعقائديّةِ على الشعوب الأخرى ولذلك بعدٌ تاريخي متأصل عندَ الغرب منذ أيام الحضارة الرومانية التي كانت تسيطر على كامل أوروبا وامتدت رقعتها الجغرافية حتى اسيا، وانطلاقاً من الإمبراطور قسطنطين بنُ هيلانة (306 -337) تحولت روما الى الدين المسيحي البابوي وأصبحت سُلطةُ الكنسيةِ توازي سُلطة الإمبراطور إلى أن فاقَت الكنيسةُ الإمبراطور وتعدته وكانت قد رتبت نفسها ترتيباً هرمياً متطابقاً مع التنظيمات والتشكيلات السياسية، ففيها رجالُ حمايةٍ وتاجٌ وتشريفاتٌ وبلاطٌ وجيشٌ خاصٍ وجبايةُ ضرائب. مع ظهور فكرة الاستعمار التي كانت تغذيها الوطنية وروح الانتماء الغربي وحب السيطرة، وَجَدَ الاستعمارُ في المؤسسة الدينية الباباوية ما يخدم مصالحه السلطوية الكوزموبوليتانية، وكرَدِّ فعلٍ لجهود الكنيسة واعتقاداتها التي تدعم مركزيته الدينية -التي حاربها سياسياً واجتماعياً وأفرغ سلطتها محلياً. تبنى الاستعمار الكولنيالي السياسي التدميري فكرةَ التبشير بالمسيحية ليس حباً بالمسيح إنما هوسٌ مَرَضيٌّ بالهيمنة والمركزية، ولاحقاً عندما سيفشل في مشروعه سيأتي بالتبشير التنويري.
من مساوئ التنوير المستعار الذي عَمَدَ الغربُ تسويقه لشعوبنا وبيعه كالأطعمة المعلبة والجاهزة أنه قد يسلِبُ الإنسانَ أعزّ شيء يشكله في الوجود: هويته؛ أن ينسلخَ من هويته ومجتمعه وثقافته ينظر إليها نظرةَ السوءِ والازدراء ولا يرى في الغربِ إلا النموذج والمثال الأعلى للقيم الإنسانية والجماليةِ حصراً. لكن في المقابل كيف يراهُ ويرانا ذاك الغربي المستعمر! لاشَكَّ أنهم قطعوا مشواراً طويلاً في الحضارة إلا أننا في نظرهم أشباه إنسان أو شبه أوروبيون أو محلّيون كما يقول سارتر: “خمسمائة مليون إنسان (أوروبي) ومليار وخمسمائة مليون محلّي (شبه إنسان)” ويقول إرنست رينان:” إنهم عرق عمّال وكدح بدني” هكذا يسجلون ملاحظاتهم عنا وأكثر.
المعرفة عالمية تنتقل عبر الأمم بشكل طبيعي وليست حكراً على أحد، والتنوير الغربي مهمٌّ وهو رافدٌ معرفيٌ زاخر. إن التنوير الحقيقي هو الطريق الطويل في سبيل العودة الى الذات وما من طريقة للعودة الى الذات إلا بمعرفتها، التعمُّق في معرفة المجتمع والثقافة والتاريخ وشخصياته المؤثرة والانفتاح على ثقافاتِ العالم، كلها طرقاً ووسائلَ تساهمُ في معرفةِ الذات، “إذن، القوميّةُ بمعنى العودة الى ذاتنا الإنسانية (وليست النزعة العنصرية وعبادة التراب والدم)، وهي بمعنى العودة الى الثقافة والهوية التي تمنحني الشخصية الإنسانية، وتبدلني من محَلّيّ الى إنسان، ومن متوحش الى متحضِّر، ومن عديم الثقافة الى صاحب ثقافة، ومن مقلِّدٍ الى مبدع، ومن متشبِّهٍ الى إنسان أصيل.” (المستنير/ شريعتي 39). الخلاصة أننا اليوم نشاهد بوضوح سقوط أقنعة السياسة الغربية، فهي حتى الآن ماضية في تبني سردية الاحتلال والمشروع الصهيوني وتنظر إلينا – سواءً كنا تنويريين أو أي شيء آخر- وكأننا أشباه بشر، دماءُ آلاف الفلسطينيين وأيُّ أحدٍ من أهل منطقتِنا لا تساوي عندهم أسيراً أو جنديٌّ مغتصِب.