“ماي ورد”.. رائحة النوستالجيا

0
76

منذ بدأت السينما في البحرين على يد المخرج بسام الذوادي، في أول فيلم بحريني، (الحاجز) الذي كان حدثاً متغيراً بامتياز؛ إذ فتح الأبواب نحو بداية فكرة صناعة لم تتحقق للآن، رغم الإرهاصات والتجارب السابقة الأخرى المتعلقة بإنتاج شركة ديزني لفيلم “حمد والقراصنة”. لكن تجربة الذوادي – في فيلمه الروائي الأول – أفرزت مجموعة من الشباب البحريني المبدع، المعتمد كلياً على ذاته في إنتاج الأعمال ودعم الجهات المختلفة، دون أن يكون لهذا خارطة واضحة من جهة تتبنى تميّز الأسماء التي تشارك في المهرجانات العالمية، مُبرزة اسم الدولة في محافل لا تعرف منطقة الخليج، إلا حين يُذكر أنها قريبة من المملكة العربية السعودية، أو دبي!

والتجربة الأخيرة للمخرج محمود الشيخ، عبر فيلمه “ماي ورد”، الذي أنتجه وشارك في كتابته بالإضافة إلى محمد عتيق، تجربة جديدة، ليس على مستوى التجربة السينمائية في البحرين، بل على مستوى الدراما بشكل عام؛ ذلك أنه صدر بشكل كامل بمكوّن رئيس من المجتمع البحريني، وهو أمر إن لم يكن مستحدثاً، فهو لم يقدم بهذا الحجم في الدراما بكل أنواعها، إضافة إلى ظهوره الفج في بعض الأعمال التلفزيونية. فمسألة اللهجة الرسمية “الوحيدة” ليست محصورة بالبحرين، بل مرتبطة بكل البلاد التي تتعدد فيها اللهجات، بينما تتصدر لهجة العاصمة – غالباً – مثل القاهرة ومسقط وغيرهما. وتعدد اللهجات – بلا شك – هو أمر محمود، يعكس – ببساطة – التعددية الموجودة في المجتمع كما هو.

يدور الحدث في بيت مريم، الأرملة التي تزوجت مجبرةً الشيخ جعفر، وترك في عهدتها عباس ومنتظر وفاطمة، وهناك أيضاً الجد، وزوجة عباس، وابنتهما مريم. لدى كل منهم خط منفصل يجتمع عند الأم، والحياة تبدو متأججة، برغم السكون الظاهر على التصرفات التي تنتهج الطبيعية الصرفة في بعض المشاهد. الزمن لم يكن ظاهراً بشكل كافٍ؛ فلا أحد يدرك أي وقت هذا. البيت مبني على هيئة بيوت السبعينات والثمانينات؛ حيث الحوش الواسع، والغرف ذات النوافذ الواسعة تطلّ عليه، والملابس، وشكل أثاث المنزل، وطريقة العيش، والحياة اليومية الممارسة، كلها تدلل على التوقيت، لولا ظهور إشارة وحيدة وصريحة لجهاز الهاتف النقال الذي يدل على حقبة نهاية التسعينات، أو بداية الألفية، وظهور أبراج اتصالات في المشهد البانورامي الأخير أيضاً، ولأجل كسر السكون السائد، يختار المخرج أن يوقظ قلب الأم/ الجدة المتأجج بحبٍ سابق، عبر إعادة طلب الزواج. ولو لم تكن هذه الفكرة، لسار كل شيء كما هو: عباس (الذي قام بدوره جمعان الرويعي بتمكّن) يحاول أن يرث عمامة والده، بلا دراسة متعمقة في الدين، أو حتى موهبة في الصوت، شخصية أنانية في الظاهر، ومتخبطة من الداخل، لا يعرف هل ورث التدين أم الوظيفة من مشيخة والده الدينية؟ وعلى المستوى السلوكي، لا يبدو متأثراً بتعاليم الدين – أي دين حقيقة! – فيستولي على جزء من دخل البيت بلا حق؛ حيث يحاول تمرين صوته للقراءة الدينية التي يشعر بها بمكانة يشعر باستحقاقها دون أن تكون كذلك، وهو سيء الطبع مع الجد، ومع الزوجة، ومع الأم بشكل مفرط. وحتى في إطار الزواج، لا يبدو الأمر بريئاً، فثمة إشارات لعلاقات خارج الإطار.

ومنتظر، عائد من تجربة رهيبة وراء قضبان السجن، بعد رحلة عناء جعلته رهينة للذعر والذاكرة المشحونة بعذابات لم يفصح عنها. لكن أداء حسين عبد علي المسرحي بامتياز، استطاع الإيغال في هذه الحالة، تخدمه تقنية الــ Close up التي تدعم انفعالاته غير المعلنة، وهو الذي يبذل أضعافها على خشبة المسرح ليصل إلى الدرجة نفسها من التعبير. أما فاطمة، المرتبطة بابن الجيران ذي الأصول الفارسية، والذي تمنع والدته هذه الزيجة؛ ليس بحجة اختلاف العرق، وإنما لأن البنت تحمل مرضاً وراثياً قد تنقله لأولادها، وتستعرض كل هذه الخطوط بمهارة النوستالجيا، لفترة وملامح لم تُخدم درامياً كما يجب. ورغم عدم وجود جماليات، سواء على مستوى موقع التصوير، أو حتى الأحداث، لكن ربما اختيرت هذه الحقبة حتى تتوسط بين فترة بيوت الطين والبيوت الحديثة، وإشارة إلى فترة مهمة حدثت خلالها تغييرات كثيرة في المجتمع البحريني على وجه التحديد.

تسير الأحداث بوتيرة منهج واقعي ممزوج بالطبيعي، كأنَّ هناك كاميرا مثبتة ترصد أحوال هذه الأسرة: عشاء بسيط/ أكل جماعي في توقيت واحد/ صحون مشتركة/ حميمية في العلاقة، حتى لو جرَّها عباس إلى منحى مزعج، إلى حين ظهور الحب القديم (حبيب) عبر الأخت الوسيطة؛ حيث تغيّرت الأحوال. ماذا لو كان حبيب فكرة؟ يعني أن يكون هذا الصوت الظاهر من الهاتف، ونكتفي بردود فعل مريم الكفيلة بإيصال مشاعر اللهفة، والرهبة، والعيون التي لمعت بعد انطفاء طويل. في الواقع، لم يكن لظهور الحبيب المادي أي تأثير، ولو اكتفى المخرج الشيخ بإظهار جزء من بروفايله دون حوار ليضع المشاهد في خانة التأويلات، كما حصل في أكثر من موقع في الفيلم، لأضاف الغموض المطلوب للشخصية، وأشرك المتلقي معه في مسألة (لم هذا القرار؟) و(ما أهميته وتأثيره وإضافته لحياة الجدة الراضية القانعة؟). توقيت التغيير لدى الأم كان مرهوناً بظهور الحبيب القديم. فلا تبدو على مريم أي آية من آيات التطلع للزواج، أو لغير الحياة الروتينية بين أولاد وحفيدة، والاهتمام بشؤون البيت اليومية الصغيرة، بعكس شخصية شقيقتها التي تصف نفسها بقوة الشخصية لأنها اختارت أن تتزوج ثلاث مرات مؤمنة أنه حقها في الحياة.

ولأنه عمل بحريني خالص، ففكرة الهوية بتفاصيلها حاضرة في المجتمع الشيعي، عبّر عنها الفيلم في تفاصيل كثيرة؛ مثل اللهجة التي تطرقنا إلى الحديث عنها، والتي بذل فيها الممثلون جهداً كبيراً ومقدراً، لكنه غير كافٍ في مواضع معينة، برغم الأداء التمثيلي الرائع لكل الأدوار بالفيلم، بداية من مريم زيمان التي قبلت بشجاعة أن تكون أماً للرويعي، وربما هذا يشرح زواجها الجبري في سن مبكرة ربما، ودانة آل سالم، وكل من تفانى لتقديم الدور بصورة جيدة، وبغير لهجته الأصلية، لكن يبقى أن المزيد من التدريب كان سيظهر العمل بشكل أفضل بالتأكيد.

هناك أيضاً الهوية في التعدد العرقي بين عائلتي فاطمة وجارها، وعبر صوت الغناء في جلوة عروس الجيران في مفتتح العمل، واستخدامها ثيمة في الفيديو الترويجي للفيلم، وصب ماء الورد على قدمي العروس المنقوشة بالحناء كتقليد معروف في هذه المناسبة، وفي مرض السكلر/ فقر الدم المنجلي الذي يبدو علامة بحرينية منذ استخدم ثيمته الكاتب والسيناريست البحريني الراحل فريد رمضان في أكثر من عمل أدبي له، عدا التفاصيل الأخرى الدقيقة؛ مثل أزياء الممثلين التي لا بد أن تشبه طبيعتهم وحالتهم المادية التي يدل عليها حال البيت ذي الجدران المتشققة، كأنَّه تعبير عن نفسيات شخوص أهله. لكن التفاصيل الصغيرة المعنية في طريقة لبس الحجاب لزوجة عباس السورية (ريم ونوس)، والذي يهيّئ نفسه لمكانة دينية لها تفصيلة ملفتة، وكذلك في محافظة الابنة فاطمة على التمسك بتغطية كامل اليد عبر قطعة خارجية تحت العباءة السوداء التقليدية، والأظافر الكادحة غير الملونة، ورف سجادات الصلاة وتُرَب وكتب دينية، وسجادة في منتصف مكان تجمع العائلة.

هذه التفاصيل الشكلية التي تراكمها العين من أجل التركيز على ما تعانيها مريم تحديداً. فهي أساس القصة، ويبدو أن حبيب هو قشة النجاة من ألم غير ظاهر، لكن يبدو أنها غصة قديمة متعلقة بعدم التقدير، في كونها تعيش حياة موازية للحياة التي كانت تتطلع إليها برفقة شريك تختاره بنفسها؛ ولأن الفكرة الرئيسية هي في استيعاب زواج الأرملة أو المطلقة بالذات حين تكون تقدمت في العمر، بحيث أصبحت جدة. ولا داعي للتذكير بأن هذا الأمر ينطبق على الإناث فقط. فالذكر له حق الزواج في أي عمر، ووضع، وحالة، دون انتقاد. بينما تتعرض مريم المسالمة إلى تدخل المجتمع برمته؛ من كتابة رسائل مسيئة تخوض في العيب وعدم جواز الأمر، أو تدخل زوجة شيخ الدين الفلاني (شذى العصفور) التي تستمد قوتها منه، وتقدم خصيصاً لتوجهها نحو رفض المسألة “لأن عندنا ما يصير”! عدا رفض الأبناء الذكور السافر، وتحايل والد زوجها الراحل (يحيى الشيخ) من أجل إفشال الموضوع، وبعدها لا عجب إن رأت مريم نفسها في المرآة الوحيدة في الفيلم بشكل مشروخ وغير حقيقي، وربما كانت دالة على نظرتها لذاتها من الداخل.

يشير العمل أيضاً إلى ثيمة الماء المهمة، وذات المعنى، وذلك في المشاهد التي طالت معنى التجديد، وإعادة التفكير، قدمها المخرج ثلاث مرات في استحمام أبطاله: منتظر بعد السجن، مريم وهي تستعد لزيارة حبيب وأهله، جعفر في منتصف أفعاله التي لا يبدو أن الماء أو غيره سيكون له أثر أو معنى، وأخيراً غسيل حوش البيت الذي اشترك فيه الجميع بحماس ورضا في نهاية الفيلم.

وبينما أشرنا في أكثر من موقع إلى استخدام الأسلوب الواقعي/ الطبيعي، المناسب لأجواء العمل بطبيعة الحال، نشير أيضاً إلى مسألة التلامس بين الممثلين، والتي كان من المحبذ أن توجد لها حلول إخراجية مقنعة أكثر؛ حيث محدودية تلامس الممثلين -ذكوراً وإناثاً- هو أمر مقدر ومحترم، لكنه قد يجعل الفعل غير منطقي، مثل مشهد استقبال منتظر بعد خروجه من سجنه، والاقتراب الحذِر من والدته وأخته، تقوّض الاندماج من المشهد، ليتذكر المشاهد أنهم ممثلون أمام كاميرا تصوير. ولو أن منتظر عامل الجميع بذات الشكل، ليخلق وهم الخوف من الاقتراب من الآخرين -كأحد تبعات سجنه- ومبرراً لعدم التلامس، لولا أنه احتضن جده بشدة، ليحسب مشاهد الفيلم البعيد عن بيئة الخليج والعرب عموماً سيعتقد أنها الطريقة المعتادة للعلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة! وهذا الرأي لا يعني على الإطلاق كسر العرف بالحفاظ على المسافات، بل بالتفكير في حلول مبتكرة وإبداعية لتوصيل الفكرة في أحسن شكل ممكن.

سيكون هذا الفيلم في دور العرض السينمائية في الفترة القريبة القادمة. كتب هذا العمل، كما أشرنا، محمد عتيق بالإضافة إلى محمود الشيخ الذي أخرجه وأنتجه أيضاً، بمساعدة كتيبة كبيرة من الأيادي والطاقات البحرينية المتعاونة، وبالتأكيد هم مصدر فخر كبير، ويستحقون الحكم العادل والتقدير على تجربتهم المميزة.