في بعض الأوقات في هذه الحياة، لا يستطيع الإنسان التمييز بين المعنى وغياب المعنى، أو بين الجوهر والمظهر.. فيكون، حينها، تائهاً ومُبتعداً عن ذاته وحقيقته؛ وعن معنى دوره وحضوره في هذه الحياة. وليست الرحلة في هذا الطريق تكون سهلة، لأنها ترتبط بمعرفة الذات وتحقيقها؛ والتي قد تستغرق، بالتأكيد، السنوات والسنوات الطويلة.
الشخصية التي نكتب عنها اليوم، تحمل من الجدارة والإحترام والأهمية، في مجال الفن السينمائي وعالم التمثيل؛ ذالك الذي تجوهر فيه، عبر تحقيق الذات ومكانة الإنسان. نعم، هو سيدني بواتييه، الممثل الأمريكي الباهامي، التي كانت حياته ومسيرته، عنواناً واضحاً للإبداع والخير في الإنسان.
البداية مع الفنان الكبير سيدني بواتييه، كانت من خلال الإعلامي المصري يسري فودة، حيث أنه قدّم برنامجاً على قناة «D.W» الناطقة بالعربية؛ وكانت الإضاءة يومها، على أحد أفلامه المهمة، والتي قدّمها في نهاية الستينيات. وبالتأكيد، لم يكن الرمز والمعنى عابراً وقتها؛ بل هو إشارةٌ إلى ما أسميه، بالوضوح والتوازن وفلسفة القوة.
صهد الليل، أو (في حرارة الليل)؛ نستطيع أن نصفه بأحد أبرز الأفلام التي قدمها سيدني بواتييه خلال مسيرته الفنية. وقد كانت تلك المرحلة – من خلال التعرف على سيرته – علامةً فاصلةً ومهمة، والتي عمل فيها لبلورة جهوده المهنية والذاتية، من أجل التقدم والإنجاز في عالم السينما.
لماذا نصف حضور ومكانة سيدني بواتييه ب”الذهب في الشخصية”..؟ والجواب هو في أعماله السينمائية، وبين أداءه النخبوي والابداعي؛ الذي ينتمي إلى الإنسانية والإحترام والتقدم. وفي صميم كل ذالك، تكون المعاني والقيم، حاضرةً بين الصور والمشاهد، تلك التي وصفها بأنها الدليل والشاهد على قيمه.
إن أعمال سيدني بواتييه السينمائية، هي الرسالة والشخصية التي بناها طوال مسيرته المهنية في عالم التمثيل والسينما. وهي لم تكن بتلك السهولة أبداً، فقد كانت تنتمي إلى التحديات والقرارات الصعبة في البدايات؛ ولكنها، قد وصلت بعد ذالك، إلى الإبداع والنجاح. ولم تكن هذه الإنجازات في سيرة بواتييه، نوعاً من المراحل العابرة؛ بل كانت عنواناً للحضور الجديد، من خلال الدخول نحو عالم الإخراج وصناعة الصورة.
الأدوار التي قدمها سيدني بواتييه كانت هادفة ونبيلة. إنها تحمل الفكرة والإحترام في وقتٍ واحد. فهي تنتمي إلى الذات الطبيعية والرغبات؛ ولكن على ضوء المثالية والقيم الحسنة. وإن الأفلام البارزة التي قدّمها، تتحدث عن نفسها، بسبب وضوحها وصدقها؛ تلك التي لم تتجاوز دوره وموهبته في إنجازها. ومن الجدير هنا، أن نكتب بعضاً من العناوين التي قدمها سيدني بواتييه – قبل الإضاءة على المعاني الرائعة التي قدمها من خلال أعماله – مثل أفلام ك”المتحديان”، “زبيب في الشمس”، “زنابق الحقل”، وأيضاً فيلم “رقعة من اللون الأزرق”.
الجانب الإنساني والأفكار التقدمية، هي الصيغة الأجمل والأفضل للمعاني التي قدمها سيدني بواتييه، خلال العقود الأولى من مشواره السينمائي. وإن بناء الإنسان وتحقيق الذات، قد تكامل فعلاً عبر أدواره الملهمة؛ من خلال فيلمي “إلى أستاذي، مع الحب”، وأيضاً فيلم “خمّن من سيأتي للعشاء؟”. وعندما نتحدث عن الفيلم الأول، فإننا نشاهد معنى التغيير والتأثير؛ ولكن عبر التعليم ومكانة المعلم، الحقيقي والإنساني. وبين تراجع مستويات الاهتمام بين الطلبة ومكانة العنصرية، استطاع المعلم هنا، أن يبني جسوراً من التواصل معهم؛ استغرقت منه الوقت والصبر والمحاولة، وأيضاً الغضب الطبيعي والايجابية الصادقة. وقد كان مبدأ الإحترام والإحترام المتبادل، نوعاً مهماً من القاعدة الصلبة، بين ذاته أولاً، وبين محيطه وطلابه.
أما الفيلم الثاني، والذي أوردنا إسمه أعلاه، فهو يتحدث عن الاتجاهات الجديدة والاستثنائية في المجتمع، من خلال الحب والزواج خارج الإطار التقليدي؛ الذي يتجاوز الاختلافات العرقية، وينتمي إلى الحب والإحترام ومكانة الشخصية. وإن الحوار بين سيدني بواتييه ووالده في الفيلم، حول طبيعة التفكير وخيارات الحياة بين الأجيال المختلفة، بين الآباء والأبناء، كان مُلهماً وعظيماً بكل معنى الكلمة. والجوهر في هذا الاختلاف، هو في النظرة إلى الذات، تلك التي تتجاوز المستويات العرقية وتتجه نحو الإنسانية.
إن التقاليد والمفاهيم في الحياة، لا تتغير أبداً بتكرار التاريخ وجموده؛ بل من خلال المساهمة في تحديثه نحو الخير والرفعة الإنسانية. وقد كان الحوار بين الإبن والأب هنا، مثالاً واضحاً على مكانة التقدم الاجتماعي، من خلال تقديم التحديث والإنسانية، اتجاهاً مهماً للفرد وثقافة المجتمع.
في السيرة الإعلامية لسيدني بواتييه، كان هنالك لقاءً مهماً قد أجرته معه الإعلامية أوبرا وينفري في العام 2000. هذا اللقاء، اعتبره جديراً ووافياً؛ من الجانب المعرفي والإنساني، بحق شخصية سيدني بواتييه. وبعد هذا اللقاء، كتبت أوبرا تقديماً له، يجمع بين التوصيف والتغطية؛ على ضوء الأثر الإنساني الذي رأته في شخصيته. وسنحاول أن نقتبس هنا، بعضاً من هذا التوصيف، والذي تقول فيه: “لا يزال الإنسان يجسد النعمة والسهولة والقوة والشجاعة، فهو رجل نبيل بكل معنى الكلمة؛ وخلال أكثر من 25 عاماً من العمل كمحاور، تحدثت إلى مئات الأشخاص، ولكن اليوم أشعر بالدوار. وعندما اعترفت له بذلك، يبتسم ويقول: هذا يُغريني، لم أفعل أي شيء لتبرير ذلك”.
بين العرق والذات، تمحورت المواقف والآراء حول سيدني بواتييه، فهو يرى أن مكانة العرق مهمة؛ ولكن الجوهر والأساس هو الذات. وأن “الصورة الكبيرة” للحياة هي الغاية والمعنى، والتي تقودنا إلى فهم وتحقيق إنسانيتنا.
عندما قرأت أوبرا وينفري سيرته الذاتية، سألت بواتييه عن أحد المواقف المهمة التي واجهها في بداياته المهنية؛ عندما رفض دوراً يتقاضى 750 دولاراً في الأسبوع، لأنه يتعارض مع قيمه. وإن القرارات الصعبة – تلك التي تحدثنا عنها سابقاً – تتطلب دوماً الصبر والتضحيات؛ وفي سياق ذالك الموقف، قام سيدني بواتييه باقتراض المال مقابل أثاث منزله. وقد كان هذا الموقف والمبدأ في سيرته، عاملاً مؤثراً وناجحاً في أعماله واختياراته.
لقد تناولنا في المقال السابق موضوع ومكانة التربية، وقد أضاء هذا اللقاء أيضاً، على قيمة الإبداع والموهبة؛ والتي تجلَّت في الفنان سيدني بواتييه. ولكن، هنالك، الظروف الخارجية والأسباب؛ التي تجعل من هذه “الهدية” أن تزدهر. ومعنى كلمة “الإزدهار” هنا، ليس مرتبطاً بالحسابات والتخطيط أبداً؛ بل أنه ينتمي إلى العفوية والنقاء والإحساس بالذات، مع الآخذ بالاعتبار أهمية التطوير وبناء الشخصية. وقد وصفت أوبرا هذه المسألة، بأنها أمرٌ “يتطلب مجموعة من القوى لإخراج الهدايا”.
إن قيمة الموهبة والإبداع تتجلَّى حقاً، عندما تبدأ من خلال الذات الطبيعية والإنسانية؛ والتي تكون بمثابة الضوء والمعنى، الذي ينتمي إليه الإنسان، تحقيقاً وتوازناً مع قيم وأبعاد الحياة؛ تلك المتمثلة في الإحترام والخير والارتقاء. ومن خلال هذه الكلمات والأفكار، نحاول توضيح وتعريف، فلسفة الهدايا ومكانة الإزدهار، والتي نفهمها من سيرة بواتييه وكلماته.
بين العرق وتحقيق الذات ومكانة العنصرية، كانت المسؤولية على سيدني بواتييه كبيرة جداً. وقد كان العمل والدور هنا، هو من أجل تحقيق التوازن والحضور بينهما. ولم تكن الإشارة إلى مفهوم (السباق) من قبل بواتييه عابرة؛ فهي تقول الكثير بالنسبة لتجربته في هذه المسألة، من خلال مفهوم تغليب العرق على الذات. وهو يرى هنا، بأن أزمة وسؤال العنصرية، قد كانت من الأسئلة المهمة، ولكنها لم تكن “السؤال الكبير”؛ وهو يوضح أبعاد هذه الرؤية ويقول، بأن “هناك وجهات نظر أخرى حول ماهية الإنسان”.
في ختام هذا المقال، من الجدارة والأهمية أن نتحدث عن التقرير المهم والرائع، والذي أعدته قناة «الميادين» عن الفنان سيدني بواتييه؛ والتي أضاءت بالكثير من جوانب حياته الإبداعية والمهنية، والذي نقتبس من فصوله هذه الكلمات التالية: “أوّل ممثلٍ من أصلٍ أفريقي يتمُّ ترشيحه لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وأوّل من حصل على التمثال الذهبي، وأوّل ممثلٍ أسود يُقبّل ممثلةً بيضاء على الشاشة؛ إنجازاتٌ قضت من بواتييه أن يكافح الظلم والتضييق والرفض والإقصاء، داخل هوليوود وخارجها، وأن ينخرط في النضال من أجل الحقوق المدنية والسياسية لأبناء جلدته”.
ويتحدث التقرير عن مكانة الإبداع والشخصية، ويقول: “موهبته ومؤهلاته وأفكاره التقدمية، سرعان ما حوّلته إلى رمزٍ ومُحفّزٍ لخيال الأفارقة الأمريكيين؛ بعد أن تجاوز بموهبته قيود صناع السينما وحواضنها السياسية والثقافية”.
ويستمر التقرير في الإضاءة على قيمه وإنجازاته، ويقول: “وُصف ذات يومٍ بالقدّيس الأسود الذي لا يمكنُ أنْ يُذَلّ، أو يتحوّل إلى نمرٍ غاضبٍ يفقد أعصابه؛ قال رداً على سؤالٍ تلفزيوني، أنه يقبل فقط الأدوار التي تُلهم الفخر للمتفرجين السود، وتفرض على المتفرج الأبيض أن يفكر بانحيازه. هذه الشخصية المثالية لسيدني بواتييه، قفزت به إلى النجومية المسيطرة طوال عشرين عاماً كرمزٍ للسود، فقدم عشرات الأفلام التي تفكك العنصرية والعبودية، وتضع العدالة والمساواة في رأس اهتماماتها، كما في فيلم Paris Blues، وفيلم The lost man؛ وعام 1997 لعب دور نيلسون مانديلا في فيلم “مانديلا وديريك”، وهو فيلمٌ تلفزيونيٌّ عن المفاوضات بين الزعيمين الجنوب أفريقيين، حول نهاية الفصل العنصري. منحه “باراك أوباما” وسام الحرية الرئاسي، وهو أعلى وسامٍ مدنيٍّ أمريكي؛ كطريقةٍ لتكريم معركة بواتييه السلمية على الدوام، والمتنازع عليها أحياناً في الولايات المتحدة”.
إن الفنان سيدني بواتييه، اعتبره، بحقّ، واحداً من الشخصيات الإستثنائية والمتميّزة في هذه الحياة. وقد منحتنا سيرته وحياته، المعاني والأبعاد الإيجابية والصحيحة؛ من خلال التفعيل والعمل لمبدأ الإرتقاء والقيم النبيلة في حياة الإنسان. وعندما تغيب مثل هذه النماذج المخلصة عن حياتنا، فإننا نشعر بالأهمية والقداسة لهذه المعاني والقيم؛ تلك التي تمنح الوجود الإنساني والبشري الحقيقة والمعنى، من خلال قيم الإحترام والخير والعدل والإنسانية.
يمتزج الحزن بالحب، بغياب مثل هذه الشخصيات العظيمة عن الحياة؛ لأنها وصلت، وبكل جدارة، إلى “قيم ومكانة الذهب” في الإنسان. وفي أزمنتنا الحالية والمعاصرة، يكونون، حقاً، مثالاً للتاريخ المباشر والواضح، والذي سيكون من صميم الحكمة والإنسانية، أن ننتمي إليه ونتعلمه؛ من خلال إحياء هذه القيم المهمة والغالية، في ثقافتنا وحياتنا.