بقلم: Andrea Donofrio
ترجمة: غريب عوض
في البداية تبدو الشيوعية الأوروبية أنها تُقدم ستراتيجية للتحول الإشتراكي بما يتماشى مع تعقيدات المجتمعات الأوروبية الغربية المُعاصِرة. ولكن بِحلول مُنتصف الثمانينيات تبدد زخمها، تارِكاً الأحزاب الشيوعية في أزمة عميقة. إلا أنهُ على الرغم من فشلها السياسي، يمكن للشيوعية الأوروبية أن تدعي تحقيق إنجازات مُهِمة.
ظهرت الشيوعية الأوروبية في سبعينيات القرن العشرين، في وسط أزمة عامة في العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي كليهما ؛ ومثلت نَزّعة من التجديد الداخلي ضمن المُعسكر الشيوعي. إلا إنها كانت ظاهِرة قصيرة الأجل، مُنذُ أن أُحبِطَت آمالها في زيادة أهمية الأحزاب الشيوعية بشكل كبير في البُلدان التي كانت فيها هي الأقوى، بسبب الصعوبات التي ميّزت تطورها وحددت نِهايتها. كانت نِشأتها في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا للإجابة على سؤال مُزدَوج: أي نوع من الإشتراكية يمكن إنشاؤها في دول أوروبا الغربية، وما هي الطريقة لتحقيق ذلك؟ لقد كانت محل نِزاع شديد مُنذُ لحظة وِلادتها، على الرغم من أن أشرس إنتقاد تعرضت لهُ كان بعد إنحِدارها. إن فشل السياسات المُختلِفة التي تم إقتراحها داخلياً أفضى بالأحزاب الشيوعية في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا إلى أن تُعيد التفكير في ستراتيجياتها.
سعت الشيوعية الأوروبية إلى تحقيق الإشتراكية من خلال الثورة الديموقراطية والتحول الإجتماعي، من خلال نشر ستراتيجية جديدة من الغزو التدريجي السلمي للسلطة السياسية، أكثر إنسجاماً مع تعقيد التغيير الإجتماعي الذي حدثَ في أواخر الستينيات في أوروبا الغربية. تميّزت سياستها (الأحزاب الشيوعية الأوروبية) بالشد بين الإستمرار والتغيير، التجديد والبقاء، وعلى وجه الخصوص أحتفض مُناصريها بموقف نقدي، ولكن غامض أيضاً تجاه السياسات السوفيتية. ورغم هدفها للتجديد، تبع ذلك الأزمة وإنحدار الأحزاب الشيوعية الرئيسة التي كانت مُرتبِطة بِها في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا. مزيج من الأسباب الداخلية والخارجية المُترابِطة وضعت هذهِ الأحزاب في موقف الضُعف وساهمت في إضمحلالها.
يُناقش هذا المقال ظاهِرة الشيوعية الأوروبية من خلال الإرتباط ببحث وتحليل تم نشرهما في إيطاليا وإسبانيا، كِلاهما في فترة نهوضها وإنحدارها ومؤخراً. كما يعتمد أيضاً على المنشورات والخِطابات التي كتبها وألقاها أبطال مشروع الشيوعية الأوروبية، بالإضافة إلى مواد صحفية، من ضمنها في الصُحُف الخاصة. ونظراً لضيق المساحة، يتبنى هذا المقال نهجٌ موجز بالضرورة؛ فهو يقتصر على التركيز على العناصر التي كانت مُهمة بشكل خاص في تطوير المشروع وتأثيرهِ وتقييمهِ لاحِقاً.
من المُفيد أن نبدأ بوضع الشيوعية الأوروبية ضمن السياق الجغرافي والتاريخي الذي ظهرت فيه، مع إبراز العوامل الوطنية، ولكن مُلاحظة أيضاً، بأن هذهِ كانت أيضاً مُتأثرة بالظروف الدولية المُحيطة. كانت السبعينيات عقداً وَحّدَ إنقطاعاً تاريخياً بين حقبتين زمنيتين مختلفتين، وتميّزَ بِمُناسبات ذات أهمية بارِزة. الأعمال والقرارات والإستراتيجيات التي تبنها الحزب الشيوعي الإيطالي والحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الإسباني، في تلك الفترة لا يمكن فهما إلا إذا تم تأطيرها ضمن هذا السياق الأوروبي في السبعينيات وتم مُلاحظتها بمعية السياسات التي تم إتخاذها من قِبَل أحزاب سياسية وطنية أُخرى في تلك البلدان.
وبعد فترة طويلة من اللامُبالاة – بين نهاية الثمانينيات والعقد الزمني الأول من القرن الجديد – أصبح الإهتمام بالشيوعية الأوروبية يتزايد تدريجياً الآن، على الرغم من أنهُ لم يصل بعد إلى مُستوى الإهتمام الذي حظي بِهِ في سبعينيات القرن العشرين، وهي فترة ذروتها. وهذا الإهتمام المُتجدد يرجع إلى عدد من العوامل بما في ذلك نشر مُذكرات بعض أبطال تلك الفترة والوصول إلى أرشيفات جديدة حول الموضوع. ومع ذلك، كان هناك عاملٌ مُهِم آخر وهو الإهتمام المُتجدد بدراسة أزمة الأيديولوجية الماركسية والشيوعية.
مُنذُ سقوط الأنظمة الإشتراكية وصدمة ما بعد عام 1989 الفائتة، أصبح هناك إهتماماً مُتزايداً بالأسباب والعوامل والعناصر التي أدت إلى ’إنهيار التقاليد الماركسية‘ وظهور حِقبة سياسية جديدة، وهي الفترة التي دخل فيها الفكر اليساري السائد حتى ذلك الحين، بعد أكثر من ثلاثين عاماً، في أزمة، وأفسح المجال مُنذُ سبعينيات القرن العشرين لليبرالية في السياسة وفي الإقتصاد كِليهما. وهذهِ الزيادة في النِقاشات ونشر المُذكرات في الموضوع ليست نتيجة لنزوة أكاديمية، ولا هي مدفوعة بالحنين إلى الماضي: الهدف هو تأمل وفهم أسباب أزمة الشيوعية بكل أشكالها مُنذُ النُصفُ الأخير من القرن العشرين.
بعد القسم الأول الذي يُقدم للقارئ الشيوعية الأوروبية، مُستفيداً من الأدبيات المنشورة، يتحول تركيز المقال إلى بعض السِمات الرئيسة للمشروع، وإلى الآمال وخيبات الأمل التي أثارتها هذهِ الظاهِرة. ويختتم المقال بِمُناقشة موجزة لبعض التأمُلات والتقييمات التي تم إجراؤها حول هذا الموضوع.
الشيوعية الأوروبية، مشروع طموح
كانت الإستراتيجية الشيوعية الجديدة نتيجة عاملين مُهمين ولكن مُختلفين جداً: الأزمة الإقتصادية في الستينيات، التي كان لها التأثير الشديد في السبعينيات وأصابت معظم بلدان أوروبا الغربية بعد فترة طويلة من التنمية الإقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية؛ والفراغ الواضح بشكل مُتزايد في الخِطاب الإنتصاري حول نجاحات ثورة عام 1917. أظهرت الظروف الإقتصادية والسياسية في الإتحاد السوفيتي حقيقة مُختلِفة عن تلك التي قدمتها الدعاية السوفيتية، وأصبح بِناء الإشتراكية في بلد واحد موضع تساؤل.
لقد كان أو إنقسام في الكُتلة المُتجانِسة للديمقراطيات الشعبية الأوروبية ناجماً عن المواجهة بين تيتو Tito و ستالين Stalin في عام 1948، وبما أن هذا قد أعقبهُ فيما بعد إبتعاد بعض بلدان أوروبا الشرقية الأُخرى – مثل رومانيا و ألبانيا – عن الإتحاد السوفييتي، فقد أتخذ التآكل السياسي للكُتلة الشيوعية طابعاً مُستمراً ومُتكرراً. إضافةً إلى، من وجهة نظر إقتصادية: ’أظهَرَ وضع الأنظمة الشيوعية “الحقيقية” … النتائج الإقتصادية الكارِثية للتخطيط الإشتراكي وتدهور مستويات المعيشة لمواطني الدول الإشتراكية.‘ إن ’التأثيرات الإقتصادية الكارثية للدولة‘ جعلت من مُحاكاة النموذج السوفييتي أقل جاذبية. وكان في هذا المشهد حيثُ ظهرت الشيوعية الأوروبية، وهي الظاهرة التي أزعجت موسكو Moscow وأثارت فضول واشنطُن Washington ، وأثارت إضطراب النِقاش السياسي في ذلك الوقت، وأثارت آمالاً كبيرة بين الناشطين في إيجاد بديل للنموذج السوفييتي قابل للتطبيق.
تم تقديم الشيوعية الأوروبية بإعتبارها إقتراحاً لـ’تنسيق المُبادرات والتعاون المُستمر بين الأحزاب الشيوعية في الغرب الرأسمالي والعلاقة المُوحدة مع القوى الأُخرى للطبقة العاملة واليسار الديمقراطي المُلتزم بالنضال من أجل التحول الإشتراكي للمجتمع. ويزعم الكثيرون بأن مركزها كان إيطاليا، ولكنها كانت أكثر تعبيراً عن نفسها داخل الحزب الشيوعي الإسباني. بالإضافة إلى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، كانت قد تطورت أيضاً في عدة دول أُخرى، مثل اليونان وفنلندا والنمسا والمملكة المتحدة واليابان وبلجيكا وسويسرا.
كانت الأحزاب الشيوعية في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا مُقتنِعة بأنه على الرغم من أن كل قصة أو سيناريو وطني قدم خصوصياتهِ الذاتية، كانت هناك أيضاً ظروف لتغيير المواقف بين جميع الأحزاب الشيوعية الناشطة في أوروبا الغربية على المُستوى الدولي. لم يكُن الهدف هو إنشاء مركز سُلطة جديد، أو تنظيم تجمعٌ وسيط. بل كان الهدف هو ضمان إستمرارية العِلاقات التعاونية التي كانت تتطور بين الأحزاب الثلاثة مُنذُ الستينيات، والتي تكثفت في بداية السبعينيات. وأقترحوا مشروع تقارب واسع النِطاق على أمل:
أن تكون الشيوعية الديمقراطية الخالِصة … لاعِباً رئيسياً في السياسة الأوروبية الغربية، في عملية ديمقراطية تَعدُدية قائمة على التصويت بالأغلبية، تهدفُ إلى تحسين وضع العُمال، والحدُ من هيمنة الإحتكارات، وتنفيذ إصلاحات هيكلية تَقَدُمية، قادِرة على فتح مسار تطوري نحو الإشتراكية.
وكانت نقطة البداية هي فكرة مفادها أن الإشتراكية في هذا الجزء من العالم ’ليست ضرورية فحسب، بل مُمكِنة.‘
إن تعريف الشيوعية الأوروبية ليست بالأمر السهل، خاصةً وأن مُروجي المشروع لم يُقدموا تعريفاً مُحدداً بأنفُسِهم، وفي بعض الأحيان كان المُصطلح يُستَخدم بشكل فُضفاض إلى حدٌ ما. في إيطاليا، يُعرِف الصحفي أنطونيو روبي Antonio Rubbi الشيوعية الأوروبية على النحو التالي:
مجموعة من الأفكار والأهداف التي لا تستبعد المعالجة المحددة للمسارات الوطنية نحو الإشتراكية والإعداد المُستقل من قِبَل كل حزب، ولكنها تعترف بأن هناك بعض السِمات المُشتَرَكة في سياسات الحركة العُمالية التي تستحق استراتيجية مُشتركة وفعالة للتقدم نحو الإشتراكية في أوروبا الغربية بأكملها.
في فرنسا، وَصَفَ جان فرانسوا ريفيل Jean-François Revel، صحفي في جريدة أل Express، المُكَوِنات الرئيسة الثلاثة للمشروع الجديد: ’إستقلالية إستراتيجيات الأحزاب الشيوعية المُختلفة عن الإتحاد السوفييتي؛ القبول بالديمقراطية التَعَدُدية؛ وصياغة مبدأ مٌستقل للأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، يعتمد عليه تنسيق خطوطها السياسية‘. وفي أسبانيا، أشار مانويل أزكاراتي Manuel Azcarate، أحد أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي الإسباني إلى أن:
الشيوعية الأوروبية هي طريق جديد ليكون المرء شيوعياً … فالديمقراطية والحُرية ليستا أداتين أو طريقين للوصول إلى الإشتراكية. بل إنهما ضروريتان لِما تُمَثِلهُ الإشتراكية. فبدون الحرية، وبدون الديمقراطية، الإشتراكية ليست إشتراكية؛ تكون على أكثر تقدير مرحلة أولية بدائية لتلك العملية نحو الإشتراكية الكاملة والتي تَتَطَلّب الديمقراطية لتكون واقعاً.