أسال فوز الروائي الجزائري الفرنسي (باعتباره يحمل الجنسية الفرنسية) كمال داود بجائزة الغونكور أرفع الجوائز الأدبية الفرنسية وأشهرها، كثيرا من الحبر بين مهاجم له محاكم لأفكاره وبين مدافع عنه يعتبر روايته الفائزة “الحوريات” جديرة بهذا التتويج. ومقالي ليس عن رأيي في هذا الفوز، فالحوريات لم تترجم إلى العربية بعد، ولم أقرأ له سوى روايته “ميرسو التحقيق المضاد” التي بناها على رواية الغريب لكامي، وقد صدرت في ترجمة لم ترق لي كثيرا بعنوان “معارضة الغريب”. وإن كنت أعتقد يقينا أن فوز كمال داود بالغونكور ليس مبنيا على جماليات روايته فقط، بل لمواقفه السياسية وتماهيه مع خط الجائزة، وليس هذا اتهاما بقدر ما هو عرض لواقع حال تكاد تعرفه كل الجوائز الأدبية بدون استثناء. وقد كتبت قبل أشهر في هذه الجريدة مقالا بعنوان “جوائز الرواية العربية .. تأمّلات في المعايير” ذكرت فيه موضوع تحيز الجائزة لسياسة أصحابها ف “ليست خطيئة أن تخضع الجائزة لمعايير المانح، بشرط أن لا يمسّ ذلك بصميم العملية الإبداعية. فلكل مانح (فردا كان أو هيئة أو دولة) اعتباراته وخصوصياته. وإن كانت الجهات المانحة للجائزة لا تذكر ذلك مباشرة بل مواربة”. لذلك يصبح الجدل المعتاد عند كل موعد استحقاقي للجوائز ضربا من الديكور المصاحب للجائزة يضاعف الاهتمام بها ولا يغير من واقع الحال شيئا.
ويرِدُ على أذهاننا سؤال جوهري: متى حصل إجماع على منح جائزة ما حتى وإن كان الحائز عليها يستحقها بجدارة؟ لأننا نجد دائما صوتاً وإن كان نشازاً يعترض ويسوق الحجج على خطأ الاختيار، ونذكر للمناسبة هنا اعتراض الأديب المصري يوسف إدريس على منح زميله نجيب محفوظ جائزة نوبل، ولم يخف إدريس ذلك بل صرح به لجريدة “الوفد” بعد أيام قليلة من الإعلان، وقال بأن محفوظ حصل على نوبل بفضل مهادنته لليهود وعدم انتقادهم. وكان اعتراضه فاقعا إلى حد أن رجاء النقاش كتب مقالا شهيرا عنوانه “الرافض الوحيد”. وإذا كانت مسألة استحقاق نجيب محفوظ لنوبل محسومة ويكاد ينعقد الإجماع عليها، فقد رافق هذا التشكيك بالانحياز جائزة نوبل منذ أول سنة منحت فيها، ففي الوقت الذي توقّع أغلب النقاد والأدباء أن يفوز بها في دورتها الأولى سنة 1901 كاتب روسيا العظيم تولستوي ذهبت إلى شاعر فرنسي يدعى “رينيه سولي برودوم”، لا أعتقد أن أغلب المثقفين والقراء يسمعون باسمه اليوم، إلى درجة أن مجموعة من أدباء السويد اعترضوا على هذه المفارقة وكتبوا رسالة اعتذار لصاحب “الحرب والسلام” و”أنا كارينينا”. وحدث الأمر أيضا سنة 1953 حين فاز رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل الخارج منتصرا من الحرب العالمية الثانية بهذه الجائزة المرموقة، ولكن فاز بها في فرع في الأدب وليس في فرع السلام مثلاً، في الوقت الذي ترشح معه في السنة نفسها الكاتب الفرنسي أندريه مالرو والبريطاني غراهام غرين وهما من هما في ميدان الكتابة. وتكرر الأمر كثيرا، فلو سألنا أي متابع ولو كان متخصصاً عن أسماء بيورنسون وسينكيفيتش وفون هايدنستام وجميعهم فازوا بجائزة نوبل، ثم سألناه عن بورخيس ومارسيل بروست ومارك توين وكلهم لم يحظَ بشرف نيل هذه الجائزة الكبيرة، نسأله لمن قرأ من المجموعتين بل بأسماء من سمع من بينهم فلا أظننا نحتاج لسماع إجابته. وهذا يؤكد لنا ما نعرفه ولكننا نغفل عنه من أن الفائز بنوبل أو أية جائزة أخرى ليس بالضرورة أفضل من غيره أو يستحقها أكثر، وقد كتب عباس محمود العقاد في سنة وفاته قبل ستين سنة كتاباً عن جائزة نوبل بعنوان “جوائز الأدب العالمية” ذكر فيه أن هذه الجائزة “ليست شهادة محققة برجحان من ينالها على من تتخطاه، وإنَّ كثيرين ممن لم ينالوها أرجح قدرًا، وأثبت فضلًا، وأشيع ذكرًا من الفائزين بها”.
والتفكير المنطقي المعزز بالشواهد يقول إن الموضوعية في منح الجوائز الأدبية مثلها مثل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان مفاهيم مثالية ولكنها بعيدة التطبيق إن لم تكن مستحيلة. لذلك صدرت كتب في فضح هذا التحيز في منح الجوائز بل فبركة النتائج أحياناً، حيث صدرت للروائي المغربي محمد سعيد احجيوج قبل سنوات رواية بعنوان “أحجية إدمون عمران المالح” تدور حول الترتيبات والاتفاقات التي تكتنف الفوز بجائزة ما، كما كتبتُ مرة في مقالي عن برنارد بيفو وقد رأس الغونكور نفسها خمس سنوات كاملة بعد أن كان عضوا في لجنة تحكيمها عشر سنوات، إذ حظر هذا الناشط الثقافي العاشق للكتب على أعضاء لجنة التحكيم العمل في دور النشر ولو بصفة استشارية لتضارب المصالح. وشبهة تدخل دار نشر غاليمار -وبالمناسبة هي الدار نفسها التي صدرت عنها رواية الحوريات -بطريقة غير مباشرة في فرض فوز رواياتها المقدَّمة أثيرت أكثر من مرة في الإعلام. ويكفي أن نكتب كلمتي فضيحة وجائزة أدبية في محرك البحث بالإنجليزية حتى نعثر على عشرات المقالات التي تتناول الموضوع ومنشورة من مجلات مرموقة مثل الغارديان والنيويورك تايمز.
وأسباب التحيز في منح الجوائز متعددة بتعدد الغايات من إنجاح كاتب على حساب كاتب آخر. فهناك التحيّز المكاني القائم على الجغرافيا، وخاصة في الجوائز المفتوحة لمشاركات أشخاص من بلدان متعددة، ونعود دائما لنوبل باعتبارها أهم جائزة أدبية في العالم ونحصي كم من كاتب نالها من خارج الدائرة الغربية الأمريكية، والأمر نفسه ينطبق على اللغة، فالكتب المكتوبة بالإنجليزية لها حصة الأسد، أما المرأة فقد تعرضتُ لهذا التمييز الجندري مرارا وبالأرقام الواقع ضدها في مقالات سابقة.
وما ينطبق على نوبل ينطبق على غيرها من الجوائز بنسبة أقل أو أكثر لكنه لا يلغي ما هو موجود فعلا. بل هناك أنواع من التحيّز الخفي حتى من داخل الجنس الأدبي نفسه، ولطالما تساءلت مثلا بعد أن مضت سبعون سنة على ظهور ديوان الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ “ثلاثون قصيدة” وهو أول ديوان في قصيدة النثر وظهرت تجارب مهمة من الماغوط إلى أنسي الحاج وقاسم حداد وتجارب الشباب على امتداد الوطن العربي بل وتحول إلى كتابتها شعراء التفعيلة الكبار مثل سعدي يوسف وأدونيس، لماذا لا تزال تستبعد من الأغلبية الساحقة من الجوائز المخصصة للشعر، فيقصرون التنافس على الشعر العمودي وشعر التفعيلة. وهو تحيز أجناسي لا شك فيه. ويبقى هناك تحيز آخر من النوع الخفي أيضا وهو تحيز الحكام المكرسين لما ألفوه، فغالبية حكام الجوائز يُختارون لتجربتهم أي لتمرسهم في أسلوب كتابي يصعب عليهم استحسان غيره، فمن الصعب أن يجيز شاعر كلاسيكي قصيدة حداثية أو روائي من القرون الوسطى رواية تجريبية.
كل هذه التحيزات تلقي بظلالها على مصداقية الجوائز ويبقى واقعا وللأسف أن كل جائزة متهمة حتى تثبت براءتها وهيهات أن تَسلَم.
هذه الشوائب في الجوائز الأدبية جعلت بعض المشاكسين يطرحون جائزة أدبية لرفض الجوائز الأدبية، وأطلقوا عليها اسم “جائزة جان بول سارتر لرفض الجوائز” مقتدين بسارتر نفسه الذي رفض جائزة نوبل سنة 1964 لأنه كان يرفض أن يحول الكاتب نفسه إلى مؤسسة. وهذه الجائزة الغريبة الطريفة تمنح معنويا لمن يرفض جائزة لأسباب يراها وجيهة كإدانة الجهة المانحة لأنها من نظام شمولي أو تعبر عن ممارسات غير ديمقراطية، وبغض النظر عن جدية أو تأثير هذه الحركة إلا أنها يد أخرى ترفع لتصويب معايير الجوائز وإبعادها عن كل مؤثر خارجي سوى الأدب نفسه، وهذا ما يعيدنا إلى النقطة التي انطلقتُ منها، هل الاحتجاج على منح كمال داود الغونكور بسبب مواقفه السياسية سواء في بلده الجزائر أو ما يجري في فلسطين، أو لأن قيمة الرواية الأدبية لا تؤهلها لذلك. والجواب على هذا السؤال وحده هو من يثبت وجاهة اعتراض الرافضين أو تحيزهم هم أيضا بدواع إيديولوجية. وإلى جائزة جديدة وجدل آخر لا ينتهي نرجئ البحث الحقيقي في آليات منح الجوائز ومعاييرها.