يبدو أن الفوز الكاسح للرئيس الاميركي القادم للبيت الأبيض دونالد ترامب، وحصوله على تفويض شعبي تجاوز كل التوقعات، خاصة عندما تجاوز بكثير ال 270 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي، ليعود وبقوّة هذه المرة ومعه أغلبية كافية في مجلسي الشيوخ والنواب، مما سيتيح له المضي قدماً في تنفيذ برنامجه ووعوده الانتخابية، يؤازره في ذلك وبحسب المراقبين تداركه حتى الآن لما أسموه بفوضى التعيينات التي شابت فترة رئاسته الأولى، حيث باشر في استكمال عناصر حكومته القادمة بمجموعة منتقاة من الغلاة ممن يستطيع الثقة بهم بصورة تكفل له سلاسة الحكم وتحقيق أجنداته المعلنة وربما غير المعلنة خلال السنوات الأربع القادمة.
على أن الأهم في امر وصول ترامب مجددا للبيت الأبيض بكل ما يحمله من زخم وأحاديث ووعود سبقت إعلان فوزه، هو ما تناوله إبان حملته الانتخابية من قضايا أساسية لبلاده وللعالم الذي سيبقى الجميع منتظراً البدء في مباشرتها، حيث سيبقى البعض متفائلا بتغيير واقع بعض تلك القضايا ربما نحو الأفضل، فيما يبقى البعض الآخر إما مراوحاً بين الحذر والخوف والتردد أو توقع حدوث الأسوأ!
وعلينا القول أولاً إن الانتخابات الأميركية هذه قد جرت وسط حالة من عدم اليقين والاستقرار العالمي، وصلت حدّ الاعتقاد أن عالمنا قد بات فعلاً على مشارف حرب عالمية ثالثة بفعل نهج الهيمنة ونشر الحروب الذي تبنته الدول العميقة الاميركية والغربية، وذلك ما شهدته السنوات الأربع الأخيرة من احداث توزعت على بؤر الصراع التقليدية والتي اعادت للواجهة حالة من عدم الاستقرار وبالتالي الجنوح تدريجياً نحو استعادة التعددية القطبية التي باتت ملامحها مرئية بوضوح في ظل حدة الصراعات وقسوتها ابتداء من الحرب الاوكرانية-الروسية وما تبعها من تدخلات مباشرة وسافرة للولايات المتحدة الاميركية ودول حلف الناتو إلى جانب أوكرانيا في محاولة لإضعاف وإرباك الدور الروسي المتنامي كقوة كبرى صاعدة أو في طريقها للصعود، مسنودة بتحالفات جديدة على المستويين الاقتصادي ضمن مجموعة دول “بريكس” ومن بينها الصين، والتعاون العسكري واللوجستي مع إيران وكوريا الشمالية خلال الفترة الأخيرة، في بعض جوانب ومفاصل هذا الصراع، وما جرى من حصار اقتصادي وعسكري لروسيا، حيث أظهر تحالف “أوبك بلاس” بقيادة كل من المملكة العربية السعودية وروسيا تماسكاً مؤثراً انعكس على ادارة تعاضدية للحفاظ على استقرار أسواق النفط بالحد الذي لم تحدث معه اختلالات كبرى مؤثرة بشكل كبير تضر بمصالح المنتجين الكبار على أقل تقدير.
وعلى الجانب الآخر فإن أحداث السابع من أكتوبر انطلاقا من أرض غزة وبطولات أبناءها المجردين من كل شيء، إلا من إيمانهم بقضية شعبهم وحقهم في ارضهم الطاهرة، أفرزت إرباكاً لكامل المشهد العالمي والعربي على حد سواء، ومازال ذلك قائما حتى اللحظة، وسط دمار شامل ومشروع إبادة جماعية صهيوني أدانته غالبية الدول في الأمم المتحدة ومعها كل الشرائع الدولية وفي مقدمتها محكمة العدل الدولية، وشاركت فيه الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا وألمانيا بالدعم المباشر وكثافة التسليح والمواقف الداعمة سياسيا ولوجستيا إلى جانب الكيان الصهيوني، الذي بات يخوض حرباً همجية بوجهه النازي القبيح في قطاع غزة الذي أضحى مدمرا بصورة شبه كاملة، واستشهاد اكثر من 50 ألف فلسطيني وأكثر من مائة ألف جريح وملايين النازحين، حيث يتمدد غرور وهمجية دولة الكيان الصهيوني إلى الضفة الغربية، واستهداف لبنان بعبثية ودمار وتفجيرات واغتيالات لا تتوقف، وسط صمود ومقاومة أسطورية في غزة وفلسطين ولبنان، وفي ظل صمت يشبه الفاجعة على المستوى الرسمي العربي.
تلك الملفات الشائكة يضاف اليها بطبيعة الحال توترات بحر الصين والصراع المحتدم بين الولايات المتحدة والصين والتنافس التجاري والاقتصادي الذي وصل ذروته واحتلّ مكاناً مهماً في الخطابات الانتخابية للرئيس الاميركي المنتخب ترامب وتوعداته بتطبيق تعرفة جمركية جديدة، والتي يعتبرها العديد من المراقبين امتداداً لما حصل إبان دورته الرئاسية الأولى التي سبقت وصول الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، علاوة على ما يلف العلاقة القادمة مع إيران وملفها النووي من غموض مشوب بتطمينات وتعامل سياسي وديبلوماسي حذر من كلا الطرفين حتى الآن، انتظارا لما ستسفر عنه المؤشرات الأولى لكيفية وفاء الرئيس المنتخب بتقليص الحروب وحل الأزمات والتركيز على الداخل الأميركي، رغم أن الثمن المقابل لذلك لازال مجهولا بكل تأكيد، وسط غموض عما يمكن ان تقدم عليه لاحقا الدولة العميقة في الولايات المتحدة، المتهمة حتى الآن بمحاولتي اغتيال للرئيس المنتخب إبان حملته الانتخابية الأخيرة.
كل تلك المؤشرات وغيرها في دوائر الصراعات القائمة عالمياً، كتلك التي في أفريقيا ومن بينها الحرب المتوحشة الدائرة في السودان والعراق وسوريا والملف اليمني، الذي لازال معطلا دون حلول وخلاصات، علاوة على ما يمكن أن تحدثه سياسات الرئيس الاميركي المنتخب من اختلالات منتظرة بالنسبة لأسواق النفط والابتزاز المتوقع لبعض الدول المنتجة، مقابل الاستمرار في توفير الحماية والدعم، يضاف إليه ما يمكن أن تحدثه تلك السياسات على مستوى دول اميركا اللاتينية والمخاوف الجدية القائمة حاليا لدول الناتو والدول الغربية بشكل عام مما ستفرضه سياسات “ترامب” من متاعب اقتصادية وعسكرية وتوترات لها.
كل ذلك وأكثر ربما يصعب التنبؤ به مع عودة ترامب للبيت الأبيض وما يحمله معه من مخاوف جدية لشركائه الغربيين وبقية حلفاء الولايات المتحدة بما فيهم دولة الكيان وهي تخوض حربها القذرة في فلسطين ولبنان وتهدد كافة دول الإقليم دون رادع دولي، وأدنى مسؤولية تجاه ما يمكن أن يحدث من تداعيات…إنها حقا عودة محفوفة بالكثير من الهواجس والقلق والمخاوف الجدية لرئيس قادم يصعب التكهن بتصرفاته وهو الذي أسمى نفسه يوما بالرئيس المجنون!