ضحايا “فرجان لوٌل”

0
2

ذات يوم من ايام تسعينيات القرن الماضي انضمّ إلى مؤسستنا في “الأيام” شاب صحفي مستجد، لفتني اسم عائلته فسألته عن صلته برجل عاش في حيّنا بالنعيم. تقصدين عمي فلان؟ أجبته نعم، وأين هو الآن؟ قال: العائلة انتقلت إلى منطقة أخرى لاحقاً، وأما عمي فقد توفي إثر نوبة قلبية، وربما تعلمين أنه كان مريضا بالأعصاب وساهم “حيّكم” في تفاقم حالته.

عبيط الحي أو مريضه أو مجنونه أو سكيره أو أرجوزة، نماذج بشرية شهدناها في طفولتنا في أزقتنا الفقيرة المزدحمة ذات البيوت الضيقة والمتراصة والمنعدمة بينها المسافات، ولا يخلو حيّ بحريني من “خميسو” و”سلمانو” و”زهرو” و”عبدو”. إنهم أبطال الأفلام والمسرحيات الحية التي يصيغها ويخرجها أهل الفريج ويرقص على وقع ألحانها هؤلاء المساكين. كان الزمان وقتها فقيراً في كل شيء، وأوّلها احتياجات الأطفال، فلا حدائق ولا ألعاب ولا وسائل تسلية ولا طرائق للتنفيس، كذلك فإن الجهل والفقر وضعف الوعي وانعدام ثقافة حقوق الإنسان في ذلك الوقت لم تكن ترى غضاضة ولا سوءاً أو خطأ في انتهاك حياة هؤلاء. 

أتذكر كيف كان يجري الأمر مع من يسمونه بعبيط الحي، وهو صبي صغير ويتيم خسر المدرسة مبكراً على خلفية تأخر وبطء نموه الجسدي والعقلي، وشهدت بنفسي الممارسات القاسية التي كان يتعرض لها، يُضرب ويُهان ويُقذف بالحجارة، ويُزف يومياً بالتصفيق وإطلاق التسميات، عُذّب وعانى أخوانه وأسرته، وتبيّن لاحقا أنه عانى من طيف التوحد. 

ومجانين الحي في حيّنا القديم كانوا أكثر من واحد. أحدهم ذلك المخمور ليلاً ونهاراً، والذي يقرر التوبة والإقلاع عن تناول المسكر في شهري رمضان ومحرم فقط، لكنه يخفق في انجاز وعده، ويعود إلى مسلكه السابق، وخلال شهري التوبة العصيّة يتعرض للتنمر والازدراء والسخرية. ذات مرة احتاج إلى الشراب فلم يجده، توّسل الاهل والمعارف والاصدقاء وحين رفض طلبه، هدد بانتهاك حرمات المساجد والمآتم، فتطوّع أحد المصلحين ومنحه مبلغاً من المال مقابل الرحيل عن الحي “خير شر”.

 والمجنون ذو الصرع، العاطل عن العمل والمفلس، لكنه “حظيظ” ورابح في لعبة القمار، يلعب فيكسب ويخسر الآخرون، ينتهزون الفرصة عبر استثارة غضبه واستفزازه، يهتاج فيغمى عليه ويسرقون المال الذي كسبه، وحين يستيقظ ويرى جيوبه الخالية، يقتحم بيوتهم ويفتش عليهم في الغرف، وهو يلعلع بصوته الجهوري مهدداً ومتوعداً بالانتقام منهم.

 وعبود المجنون طلّق زوجته في مقتبل حياته، خرج من بيته وهام على وجهه، تجده في الطرقات “يشبر ويعبٌر”، وهو يحادث نفسه، ويخرق الإشارة الضوئية ويسير عكس خطوط المشاة، تصدح خلفه أبواق السيارات وتنطلق الحناجر بالسباب عليه، قضى نحبه في حادث سير لاحقاً، وقال أهل الحي وقتها: استراح الناس من سماع كلماته النابية والخادشة للحياء.

 ولو نظرنا اليوم إلى هذه النماذج بمنظور علمي فاحص لربما وجدنا أنهم اشخاص عاديون جداً، أو ربما مختلون نوعاً أو مأزومون نسبياً، وأنهم بشيء من العلاج النفسي ربما قد يعودون إلى جادة الصواب إلا أن البيئة المحيطة الظالمة فاقمت من أمراضهم.

تضمّنت الروايات البحرينية والأعمال الدرامية الكثير من هذه الشخصيات، ويروي الكاتب والمخرج الدرامي راشد الجودر كيف استوقفته سيدة بحرينية زاعمة أن خالها تعرض للإساءة في المسلسل الشهير “سعدون” عام 1998، وأنها سوف تقاضيهم إن لم يغيّروا اسم وشخصية “سنتول”. ازاح الجودر حرفاً واحداً من الاسم ونجى المسلسل من المساءلة القانونية في حلقاته اللاحقة، إلا أن الكاتب عقيل سوار انبرى وقتها بمقال صحفي طويل مدافعا عن شخصية “سنتول” الذي قال إنه يعرفه عن قرب، باعتباره صديق طفولته ورفيق صباه، وحسب عقيل فقد ظلم سنتول وجنت عليه السياسة وأهل الفريج ثم العمل الدرامي سعدون. أنحى عقيل باللائمة على كاتب العمل الذي استخفّ بالشخصية لجهله بها، بماضيها وتاريخها، ولم ير ذلك الشاب الفطن الذكي الفنان، وكان جديرا به استثمارها وإماطة اللثام عن جذورها وتوظيفها بشكل يغني العمل ويعيد بعض الاعتبار لهذه الشخصية المبدعة والخلاقة بدلاً من تصويرها بشكل مهين.

كثيرون ربما يتذكرون ضحاياهم في الأحياء التي نشأوا فيها، وكيف أنهم أذنبوا بحقهم وربما تبيّن لهم أنهم مدينون لهم باعتذار متأخر لما تسببوا به في مضاعفة شقاء هؤلاء المساكين. ليست احياء وفرجان “لوَل” كلها عسل وطيبة واخلاق، إنما انطوت في أحيانٍ عديدة على مظالم وهيمنة قوي على ضعيف، وغني على فقير، و”فتوة” على مجنون وعبيط ومستضعف. إنه الصراع ذاته الذي تشهده البشرية في كل زمان ومكان مع اختلاف المسببات والمسميات.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا