حينما يزور القارئ المكان المتعلق بالنصوص التي قرأها، تصبح تلك التجربة من أكثر التجارب العاطفية التي تلامسه، حيث يمنحك المكان إحساساً بالانغماس العميق، فتكون جزءاً من القصة، تعيشها وكأنك أحد أبطالها. تصبح التفاصيل وسيلة للسفر عبر الخيال، فتشعر بدفء المكان وكأنك على ذلك المسرح قد عشت مع البطل أحداثه اليومية.
المكان في الرواية ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عنصر أساسي يؤثر في تطور الشخصيات وحبكة القصة. يمكن أن يكون المكان حاملاً للرموز، أو يُعزز الأجواء، أو يُضيف بُعداً تاريخياً وثقافياً. إنه يربط القارئ بالعالم الذي ابتكره الكاتب ويجعله يُحس بواقعية الأحداث. للمحرق نكهتها الخاصة، تكاد تمسك بحكايتك في كل زقاق “داعوس” تشعر بألفة كبيرة، وكأنك عشت عمرك هناك، للمحرق طابع خاص يجذب الروح.
أحبّ المحرق ربما لارتباطي العاطفي بهذا المكان، فوالدي كان يعمل هناك وقد أحبّ المحرق، وأحبّ ناسها وكم تمنى أن ينتقل للعيش هناك، لولا رفض والدتي المتشبعة بحبّ المنامة. كانت جولتنا في المحرق مع الأستاذ محمد فاضل العبيدلي جولة ممتعة لم يفوت فيها الأستاذ محمد التفاصيل الدقيقة والمهمة، طاف بنا في المكان بأسلوب شيّق، وهو يحدثنا عن الأماكن وأبطالها.
نزلنا بالقرب من بيت التاجر يوسف فخرو، كان أول مكان نقصده في هذه الجولة، بيت من البيوت القديمة تتوسطه أربع نخلات متصلات ببعضهما البعض، دخلنا البيت حيث غرفه الكثيرة وبناءه الرائع. غرفة يوسف فخرو الكبيرة المزدانة بنوافذها الكثيرة والجميلة. في إحدى الغرف، وجدنا سفينة كبيرة معروضة، إشارة إلى اهتمام فخرو بصناعة السفن كونه تاجراً للخشب. من هناك، تحركنا شرقاً ثم عرجنا على زقاق جهة اليسار وتوقفنا عند مسجد مشاري، هذا المسجد الذي تتعاقب أزمنة نص طيور الليل البيضاء الثلاثة حوله وأمامه وبقربه.
بعدها رجعنا للشارع العام، “شارع الشيخ عبد الله بن حمد” مرورا ببيت المؤلف هذا البيت الذي ارتبط بكل نصوص الكتاب، وخاصة نص “كردم” حيث يأخذنا البيت “للدكة” القريبة منه وهي درجات سلم لأحد المحلات التجارية في ذلك الحي وهذه الدكة قريبة من شقة القابلة الشهيرة “أم جان” التي قال عنها الكاتب: “هذه الدكة تصبح أشبه بالمنتدى الذي يحج ّإليه خليط متنوع من شباب الحي، مثقفين وأميين، موظفين محترمين ومدمني مخدرات. حتى أولئك الذين لا يشاهدون في الحي طيلة العام، أصبحوا حريصين على حضور هذا التجمع الصغير الذي بات إلى حد ما الرابطة الوحيدة التي تجعل أبناء الحي يشعرون بأن حيهم القديم مازال قائما على نحو ما.“
كان بيت كردم باتجاه الشرق في زقاق إلى اليمين، بيت صغير ومغلق بابه مغلف بقطعة من الحديد ما نسميه “بالجينكو”. هذه القطعة كانت تخفي هوية البيت وتضفي عليه شيء من الوحشة. كم تمنيت أن أرى الباب فالأبواب تتكلم عن أصحابها، الأبواب وجه البيت وابتسامته
تعرفنا صدفة على جارته سميرة التي دعتنا لبيتها بقلب ينبض طيبة ومحبة، دخلنا ذلك البيت فاستقبلتنا شجرة الرازقي، بيت يحمل كل عبق الماضي، كلمتنا عن كردم وكرم أخلاقه وكأنها شاهد عيان يؤكد ما كتبه الأستاذ محمد.
وقفنا في ذلك الزقاق حيث وقف كردم ليلة العزاء مع كلبه:
“ظهر بو حسن من زقاق صغير وهو يترنح ويجر كلباً أبيض اللون بحبل طويل لفّه على يده“
بعدها وقفنا في تقاطع الشارع جنب بيت مراد حيث يقف الناس لمشاهدة العزاء، ومنه إلى مسجد القصاصيب حيث أجواء نصين من نصوص المجموعة وهما نص “موت واحد وموعد مؤجل وبينهما طفلتان”، ثم أشار لنا الكاتب على البيت الثاني وأخبرنا بأنه مرتبط بنص “حيث نخلة هيفاء تطاول السماء غرورًا”.
مررنا بجامع الشيخ حمد بالقرب من بيت جمشير وبيت عبد الملك لارتباطه بالمشهد الأخير من نص طيور الليل البيضاء الذي يتحدث عن استشهاد أحد الشباب في تظاهرات عام 1965، بيت بن عون وهو بيت جد الكاتب الراحل فريد رمضان
كانت الجولة تجربة فريدة، تنقلنا خلالها بين صفحات الرواية وواقع المحرق، حيث تأخذك الأماكن لتحيا مع النصوص وكأنها جزء من ذاكرتك. كل زاوية، كل زقاق، يحمل قصصاً تنبض بالحياة، تجعل من المحرق مكاناً مميزاً في الأدب والحياة على حدٍ سواء.