ليلة في المكسيك تجمع الأحياء والموتى

0
3

تحتفل المكسيك في الثاني من شهر نوفمبر من كل عام بيوم الموتى، وهو احتفال يقابل يوم الهالوين في أمريكا، ومع أنه يتم في نفس الأسبوع، لكنه يخالف الهالوين في اليوم، ويفوقه عمقا ومدى في التأريخ الإنساني لأمريكا الشمالية وجنوبها المكسيكي اللاتيني.

تُزّين الطرقات التي تؤدي إلى المقبرة في المدن والقرى المكسيكية بباقات من وردة “السيمبا سوشيل” البرتقالية اللون والدائرية الشكل، وتضاء الشوارع بالشموع الصغيرة، فحسب المعتقد القديم لسكان المكسيك الأصليين فإن رائحة هذه الوردة و ضوء الشمع يساعدان أرواح الراحلين في الوصول الى بيوت الأحبة من الأحياء في هذه الليلة من العام، ليجتمع الشمل ويقضي الجميع، الأحياء والأموات،  ساعات الليل في سمر وأنس تحت سماء هذه الليلة المباركة، التي تستقبل العائلات فيها  أرواح الأحبة القادمة من “ما وراء الموت” بمحراب تنصبه في باحات البيوت وصالات الاستقبال، توضع فيه صور الأحبة الراحلين و شموع صغيرة وقطعاً من خبز النذور يسمى “خبز الموتى”، المصنوع في البيوت، وهو خبز دائري مزين برسم من العجين لعظمتين متقاطعتين وقطع الفاكهة و الحبوب التي كان يحب تناولها كل راحل من أفراد العائلة

يجتمع أفرد العائلة الأحياء في تلك الليلة في باحة المنزل أو صالة الاستقبال يتلون الصلوات القديمة لروح الموتى القادمين للزيارة، ويحتسون المشروبات التقليدية، يتسامرون وهم يتذكرون الأيام الخوالي حينما كان الكل حاضراً جسداً وروحاً، وكان البيت مكتمل العدد، ثم يذهبون بعدها الى المقبرة التي تتحول، بدورها، إلى مهرجان من اللون البرتقالي لزهرة “السيمباسوشيل” وتبادلات من الضوء والظلال الذي تنتجه الشموع الصغيرة في كل ركن من زوايا القبور.

يلتف الأحياء حول قبور الموتى وهم يتلون الصلوات والأدعية الموروثة ثم يبدأون في قصّ ما دار من أحداث مهمة في هذا العام على أسماع الأرواح الحاضرة للموتى وأجسادهم الراقدة في تراب الأبدية، ثم يلجؤون إلى دقائق من الصمت يستشعرون فيها ردود الأرواح الحبيبة المحلقة حولهم على ما سردوه لها من أحداث هذا العام، يستشعرون ملاحظاتهم ووصاياهم، يضعون أياديهم على صدورهم بوعد من أعماق القلب بالاستفادة من الملحوظة والعمل بالوصية.

تنقضي الليلة وقد ملأت السكينة والتسليم بالمكتوب نفوس الأحبة الأحياء، وعادت الأرواح الراحلة الى سماواتها بعد أن ابتلت الأشواق وثبت الحب. تنقضي الليلة بيوم جديد تعمّ فيه شوارع المدن المكسيكية وقراها احتفالات راقصة واستعراضات شعبية يتجمهر حولها الناس من كل حدب وصوب، ليشاهدوا هذا العرس الباهر الذي يخلد فيه الأحياء ذكرى الموتى بشخصيات فولكلورية جاءت من عمق الأسطورة الشعبية أو من الفن الجداري، وشكلت رموز ليوم الموتى الذي يلي ليلة الموتى.

من أهم هذه الرموز رمز “العروس الباكية” ورمز “الكاترينا والكاترين”. الأول يعود الى قصة حب جمعت بين شاب من شعب سابوتيكا في مقاطعة تهوانتيبيك كان قد ذهب الى حفل شعب مجاور يدعى خوشتيتان وبينما كان يسير على الطريق بجوار الكنيسة رأى فتاة جميلة تخرج منها ترتدي اللباس التقليدي الشهير “هويبيل” فوقع في حبها على الفور. عانى الشاب الأمرين حتى نال حب الفتاة وموافقة أبويها على زواجه منها ولم يكد بيت الزوجية أن يجمع العروسين العاشقين حتى هبت رياح الثورة الشعبية في إقليم اوكاسانا، والتي غيرت من مخططات الشاب وقبل ذهابه للحرب وهو يودع عروسه انهمرت الدموع من عينيها على خديها في بكاء مرير لفراق عريسها الحبيب فينادها الشاب بتحبب وهو يمسك كفها بإحدى كفيه ويمسح بالأخرى الدمع من على خديها وعينيها “أيتها الباكية”، واعداً إياها بأن يعود ويظل يحبها في هذه الحياة وبعد الممات، وبدورها تعده بأن تظل بانتظاره مهما حدث. لكن الشاب لم يعد وبعد أشهر عاد صديقه من الحرب وهو يحمل خبر وفاة العريس العاشق وخطاب به قصيدة وداع كتبها لحبيبته أصبحت اليوم كلمات أغنية من أشهر أغاني كرنفال يوم الموتى تقول كلماتها، التي ترجمتها عن الإسبانية:

“أيتها الباكية / يا من خرجت من المعبد عندما كنت أسير في طريقي/ ترتدين “هويبيل” جميل، أيتها الباكية، التي أنشأتك العذراء/ في السماء وُلدت الشمس/ وفي البحر وُلد القمر/ وفي قلبي وُلد حبك الذي لا يشبه حب أحد/ أتخلى عن حياتي ولا أتخلى عن حبك/ آه باكيتي! /  أيتها الباكية، يطلبون مني التخلي عن حبك/ لكن مستحيل أن أترك حبك/ لا تظنين عندما أغنيك/  أن قلبي سعيد/ للألم أيضاَ يغنون، عندما يكون البكاء ممنوع/ لا تبكي، إحتفلي أيتها الباكية، أنتظرك في المدى كل فجر جديد”.

اليوم تسير في شوارع المكسيك يوم الموتى استعراضات كرنفالية تضمن العشرات من الفتيات اللواتي يرتدين زي عروس وطرحة زفاف، وقد لوّن وجوههن بطلاء أبيض شاحب ورسمن على خدودهن دموع يجسّدن شخصية ” لباكية” مخلدات قصة الحب التي هزمت السنوات والموت.

أما رمز “الكاترينا والكاترين” فيعود الى رسام الجداريات المكسيكي الشهير “ديغو ريفييرا” زوج الرسامة  الشهيرة أيضا “فريدا كالو”، في نقده الاجتماعي لبعض المكسيكيين الذين تنكروا لأصولهم  محاولين تقليد الأوروبيين بأن تركوا زراعة وبيع الذرة الذي هو الطعام الأساسي للشعوب الأصلية من سكان أمريكا اللاتينية وامتهنوا زراعة وبيع الحمص الذي هو الطعام الأساسي للأوروبيين من الإسبان والفرنسيين، حيث رسم ديغييو ريفييرا لوحة جدارية لفتاة من السكان الأصليين رغم نحافتها وعظام وجهها الظاهرة وملامحها السمراء الهندية ترتدي فستان أوروبي وقبعة فرنسية  وسماها “لا قرابانسيرا”، وتعني بائعة الحمص، وبمرور الوقت شاع على هذه الشخصية اسم كاترينا وتمّت إضافة شخصية ذكورية لها تشبهها في الملامح والزي وسميت بـ “كاترين”.

يسير اليوم في الاستعراض الكرنفالي ليوم الموتى العشرات من الشبان والشابات وهم يرتدون زي كاترين وكاترينا راسمين على وجوههم جمجمة بفم مخيط ويرتدون قبعات فرنسية وبدلات أوروبية من القرن الثامن عشر.

يوم الموتى في المكسيك يشكل نظرة مغايرة للموت ومعناه وينفي فكرة الفراق الأبدي فالموتى باقون في قلوب الأحياء وتحوم أرواحهم حولهم، وكل عام لهم موعد مضروب يعودون فيه للقاء بأحبائهم روحا مستشعرة وجسدا حاضرا وإن كان غير مرئي، كأن المكسيكي بنا علاقة خاصة مع الموت خيّر من عبر عنها هو الكاتب المكسيكي الحائز على جائزة نوبل للسلام أوكتافيو باث الذي قمتُ بترجمة كلماته عن هذه العلاقة من كتابه “متاهة الوحدة” في السطور التالية:

“الموت هو الكلمة التي لا يجب نطقها أبداً لأنها تحرق الشفاه، المكسيكي في المقابل يقولها بشكل دائم، يسخر بها، يداعبها، ينام معها، يحتفل بها، هي إحدى ألعابه الأثيرة وحبه الأكثر ديمومة. صحيح أنه في سلوك المكسيكي تجاه الموت هناك بعض الخوف مثلما يحدث مع الآخرين، على الأقل هو يخفي خوفه ولا يخبئ من الموت، يتأمل الموت وجها لوجه بعجلة، بسخرية أو احتقار،

“إذا كانوا سيقتلونني غدا فليقتلوني مرة وينتهي الأمر. اللامبالاة التي يبديها المكسيكي تجاه الموت تعود إلى عدم مبالاته بالحياة”.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا