عند العرب “القيمة” من الفعل “يُقَيِّمُ”، وماضيها «قَيَّمَ»، وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء، فالقيمة قدر الشيء بالتقويم. وشاع المصطلح بعد الثورة الصناعية وظهور البرجوازية وسيادة الاقتصاد الرأسمالي الذي حوّل كل شيء إلى سلعة معروضة للتبادل في السوق، وأصبحت القيمة مرتبطة بقدر مكسب الربح. فكتب كارل ماركس أن الرأسمالية تحوّل كل شيء إلى سلعة تعرض في السوق للتبادل ولا يتم التبادل الا بتحقق الربح، فالشيء الذي لا يدر ربحاً مجزياً ليست له قيمة. وهكذا أصبحت قيمة الأشياء مرادفة لقدرتها على جني الأرباح والمكاسب المالية. ولكن هناك قيم لا يمكن أن تعامل كسلعة ومنها الفن والأدب والمسرح بشكل خاص.
القيمة هي مقياس اجتماعي لتقدير الظواهر والأشياء، والتقدير عملية طبيعية ضرورية يقوم بها كل كائن حي، فالحيوانات البدائية مثل الدود تمتلك مستشعرات لتقدير الفوائد والأضرار في محيطها، وهذه العملية تعني مسألة حياة أو موت لها، فهي تستشعر مواقع المواد وتقدر مدى فائدتها كغذاء أم لا أو ضررها كسموم. وملكة النمل تستطيع تقدير المكان لتأسيس مملكتها إن كان مناسبا ام لا. إن تقدير الأشياء عملية أساسية لاتخاذ القرار.
في المجتمعات البشرية شاع مفهوم القيمة ليشمل عدة جوانب، وفي اللغة الإنجليزية تمّ اشتقاق المفردة من الكلمة اللاتينية valere، وتعني “أن يكون مستحقا، أن يتم تقديره” أو خاصية الشيء الذي يجعله مرغوبا موضوعيا. وبما ان العيش في جماعة يستوجب وضع معايير وعلى أفراد المجموعة الالتزام بهذه المعايير، ومن ضمن هذه المعايير الأخلاق التي تحدد ما يجب فعله ليكون العمل خيرا وهكذا أصبحت الاخلاق قيما.
اعتقد نيتشه أن القوة هي التي تفرض الإرادة فهي القيمة، واعتقد سارتر أن الحرية وحدها يمكن أن تكون أساس كل القيم، ويرى ماركس أن القيمة هي نتاج عمل البشر التي يستغلها الرأسمالي ويقوم باستبدالها ليستحوذ على الربح. في علم الجمال، تشير القيمة، الى القدر الذي يستطيع فيه العمل الفني التأثير على مشاعر وعواطف الناس.
ولكن ماذا عن الثقافة؟ هذا المزيج الهجين من عدّة اشياء، وفيها الفن والأدب، والفن بحكم تعريفه هو غاية غير تجارية في حدّ ذاته، والأعمال الفنية ناقل أساسي للهوية الثقافية التي يعتمد عليها كل شعب، ونلاحظ اليوم تزايد أهميته بشكل أكثر إلحاحا من أي وقت مضى في زمن العولمة. فالفجري جزء من الهوية الثقافية لشعوب الخليج، أما لويس ارمسترونغ وموسيقى الجاز فهي ليست كذلك، مع ذلك نلاحظ أن هناك الكثيرين من أبناء شعوب الخليج تسمع وتستمتع بالجاز. فالفن يتسلل ويعبر كل حواجز الثقافات، ولكن كما يبدو باتجاه محدد، أي من مناطق الضغط العالي إلى مناطق الضغط المنخفض، من ثقافات المجتمعات المتفوقة تكنولوجياً باتجاه المجتمعات الأقل تطوراً. لذلك هناك خشية من اكتساح ثقافات المجتمعات المتفوقة تكنولوجياً، وانحسار، وربما انقراض، الثقافات المحلية الوطنية.
الثقافة أساس للهوية الوطنية، ومنها الفن، فللفن، ومنه الفنون المسرحية، وظيفة تعزيز الترابط الاجتماعي بين افراد الثقافة الواحدة والوطن الواحد. وكذلك للمسرح وظيفة تنويرية وتربوية بشكل عام، في المجال الاجتماعي في المقام الاول باعتباره مجال يمكن فيه عرض الظروف الاجتماعية المتغيرة بشكل افتراضي، ويقرب المتلقي من الاستيعاب والتحليل والإدراك. ويساعد في شرح الظروف ومخاطرها وتوصيلها إلى المشاهد، من خلال تحريك انفعالاته وتحفيز قدرته لرؤية الظواهر من خلال تحفيز التفكير النقدي.
والمسرح، مثله مثل كل أنواع الفنون والثقافة، إذا كان أصيلاً، فهو عالم من الحرية، وربما يكون الفن هو المكان الوحيد الذي لا يزال من الممكن فيه عيش حرية القوة الإبداعية للإنسان، في خدمة الذات وفي لعبة الخيال. فإنه لا يخدم أي غرض مادي ضيق، بل هو، مثل كل العمل الإبداعي البشري، مكتفي ذاتياً، وبالتالي غاية في حد ذاته، مثل اللعب. والإبداع والحرية ضرورية لتطور المجتمع ولإضافة معاني وقيم جدية وجديدة للمجتمع. والحقيقة أن التجارب والممارسة الفنية هي رمز لكل إنجاز إنساني مبدع أصيل.
إن ادامة الثقافة يكلف مالاً، واغلب الأحيان لا تجلب الثقافة ربحاً وإذا جلبت فليس إلا اليسير. لهذا تنشط الحكومات والمؤسسات في البلدان المتقدمة بتقديم تمويل ودعم النشاطات الثقافية والمسرحية، ولولا هذا الدعم لم يكن بالإمكان عقد مهرجانات للمسرح، وإذا لم يتم دعم الكتب فستكون تكلفتها عالية جداً. وغالباً ما تدفع هذه الطبيعة المزدوجة للثقافة لنقاشات حول مدى وكيفية الدعم. للأسف فإن الكثير من البلدان العربية لا تعرف التمويل العام للمسارح والمعارض والأفلام، بينما في بلدان أوروبا فالأمر على العكس من ذلك.
وهذا ليس مفهوماً من ضرب الخيال، بل هو حقيقة واقعة يلزمه القانون الدولي فحماية الثقافة و”التنوع الثقافي” تمّ اقراره بموجب اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي من قبل اليونسكو عام 2005. فتنص المادة 2 من الاتفاقية: “5- مبدأ تكامل الجوانب الاقتصادية والثقافية للتنمية، لما كانت الثقافة أحد المحركات الرئيسية للتنمية، فإن الجوانب الثقافية للتنمية لا تقل أهمية عن جوانبها الاقتصادية، وللأفراد والشعوب حق أساسي في المشاركة فيها والتمتع بها.”
في البحرين تنضوي الفرق المسرحية الأهلية تحت رعاية واشراف هيئة الثقافة والآثار، ويتم تقديم دعم مالي سنوي، ولكن للأسف لا يتناسب هذا الدعم مع الكلف المطلوبة التي يحتاجها عمل ونشاط هذه الفرق، مما يؤثر كثيراً على عطاء الحركة المسرحية في المملكة بشكل عام.
اضافة إلى شحة الموارد المالية تعاني الحركة المسرحية من ضعف البنى التحتية لعملها، مثل مقرّات وصالات التدريب والعرض. إن تحديد حجم التخصيص المالي لا يمكن أن يستند إلى نفس العناصر التي تخضع لها المنتوجات والسلع المطروحة في السوق. وهنا يجب التفكير في تخصيص رواتب للممثلين والعاملين في الإنتاج المسرحي بما يتناسب مع متطلبات توفير العيش الكريم لهم كأفراد مبدعين في المجتمع، وتوفير الحماية لهم في حالات العجز الصحي أو نتيجة التقدم في السن، كما يجب التفكير في تعزيز المؤسسات التدريبية والأكاديمية العامة لإعداد وتأهيل كوادر العمل المسرحي مما يعزز مكانة مملكة البحرين في المنطقة. فللبحرين امتداد تاريخي في الثقافة وهذا يستحق أن يستمر.